و ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً﴾ وأوجَسَ : أضمر في نفسه خوفاً.
(وقيل : وجد في نفسه خيفة).
فإن قيل : كيف استشعر الخوف وقد عرض عليه المعجزات الباهرة كالعصا واليد، فجعل العصا حيَّة عظيمة، ثم إنه تعالى أعادها لما كانت، ثم أعطاه الاقتراحات الثمانية، وذكر ما أعطاه قبل ذلك من المنن وقال له بعد ذلك كله :﴿إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه : ٤٦]، فمع هذه المقدمات الكثيرة كيف وقع الخوف في قلبه ؟ فالجواب من وجوه : أحدها : قال الحسن :" إن ذلك الخوف إنما كان لطبع البشرية من ضعف القلب وإن كان قد علم موسى أنهم لا يصلون إليه وأن الله ناصره.
والثاني : قال مقاتل : خاف على القوم أن يلتبس عليهم الأمر فيشكوا في أمره، فيظنون أنهم قد ساووا موسى - عليه السلام - ويؤكده قوله تعالى :﴿لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى ﴾.
الثالث : خاف حيث بدأوا وتأخر إلقاؤه أن ينصرف بعض القوم قبل مشاهدة ما يلقيه، فيدوموا على اعتقاد باطل.
الرابع : لعلَّه - عليه السلام - كان مأموراً بأن لا يفعل شيئاً إلا بالوحي، فلما تأخر نزول الوحي في ذلك الجمع بقي في الخجل.
الخامس : لعل - عليه السلام - خاف من أنه لو أبطل سحرهم، فلعلَّ فرعون قد أعد أقواماً آخرين فيحتاج مرة أخرى إلى إبطال سحرهم وهلم جرَّا، فلا يظهر له مقطع وحينئذ لا يتم الأمر ولا يحصل المقصود.
فصل اختلفوا في عدد السحرة، فقال الكلبي : كانوا اثنين وسبعين ساحراً، اثنان من القبط، وسبعون من بني إسرائيل، أكرههم فرعون على ذلك مع كل واحد منهم عصا وحبل.
٣١٤
وقال ابن جريج : تسعمائة، ثلاثمائة من الفرس، وثلاثمائة من الروم، وثلاثمائة من الإسكندرية.
وقال وهب : خمسة عشر ألفاً.
وقال السدي : بضعة وثلاثون ألفاً.
وقال القاسم بن سلام : سبعون ألفاً.
وظاهر القرآن لا يدل على شيء من هذه الأقوال.
ثم إنه تعالى أزال ذلك الخوف بقوله :﴿لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى ﴾ أي الغالب : يعني : لك الغلبة والظفر، وذلك يدل على أن خوفه كان لأمر يرجع إلى أنَّ أمره لا يظهر للقوم، فآمنه الله بقوله :﴿إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى ﴾، وفيه أنوع من المبالغة : أحدها : ذكر كلمة التأكيد وهي (إنَّ).
وثانيها تكرير الضمير.
وثالثها : لام التعريف.
ورابعها : لفظ العلو، وهو الغلبة الظاهرة.
قوله :﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾ وها هنا سؤال، وهو أنه لم لم يقل وألق عصاك ؟ والجواب : جاز أن يكون تصغيراً لهما، أي : لا تبالِ بكثرة حِبالِهِمْ وعِصِيهم، وألق العُوَيد الفرد الصغير الجرم الذي بيمينك، فإنَّه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها.
وجاز أن يكون تعظيماً لها أي لا تُخيفك هذه الأجرام الكثيرة فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء عندها، فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها.
قوله :" تَلْقَفْ " أي : تَلْقَمْ وتبتلع " مَا صَنَعُوا " بسرعة.
قرأ العامة بفتح اللام وتشديد القاف وجزم الفاء على جواب الأمر، وقد تقدم أن حفصاً يقرأ " تَلْقَفْ " بسكون اللام وتخفيف القاف، وقرأ ابن ذكوان هنا "
٣١٥
تَلَقَّفُ " بالرفع إما على الحال، وإما على الاستئناف، وأنّث الفعل في " تَلْقَفْ " حملاً على معنى " ما " لأن معناها العصا، ولو ذكَّر ذهاباً إلى لفظها لجاز ولم يقرأ به.
وقال أبو البقاء : إنه يجوز أن يكون فاعل " تَلْقَفْ " ضمير موسى فعلى هذا يجوز أن يكون " تَلْقَفْ " في قراء الرفع حالاً من موسى، وفيه بُعْد.
و ( " صَنَعُوا " ههنا : اختلفوا وزّوَرُوا) والعرب تقول في الكذب : هو كلام مصنوع.
قوله :﴿إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ﴾ العامة على رفع " كَيْد " على أنه خبر " إنَّ " و " مَا " موصولة، و " صَنَعُوا " صلتها، والعائد محذوف، والموصول هو الاسم، والتقدير : إنَّ الذي صنعوه كَيْدَ سَاحِرٍ.
ويجوز أن تكون " مَا " مصدرية فلا حاجة إلى العائد، والإعراب بحاله والتقدير :(إنَّ صُنْعَهُمْ) كيدُ ساحر.
(وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن عليّ " كَيْدَ " بالنصب على أنه مفعول به و " مَا " مزيدة مهيئة.
وقرأ الأخوان :" كَيْدَ سِحْرٍ " على أن) المعنى : كَيْدُ ذُوِي
٣١٦


الصفحة التالية
Icon