قوله :﴿إِنَّمَا تَقْضِي هَـاذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ﴾ يجوز في " ما " هذه وجهان : أحدهما : أن تكون المهيئة لدخول " إنْ " على الفعل، و " الحَيَاةِ الدُّنْيَا " ظرف لـ " تَقْضِي "، ومفعوله محذوف، أي : يقضي غرضك وأمرك.
ويجوز أن تكون الحياة مفعولاً به على الاتساع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به كقولك صُمْتُ يومَ الجمعة، ويدل لذلك قراءة أبي حَيْوَة :" تُقْضَى هَذِهِ الحَيَاة " ببناء الفعل للمفعول، ورفع " الحَيَاةُ " لقيامها مقام الفاعل، وذلك أنه اتسع فيه فقام مقام الفاعل فرفع.
والثاني : أنْ تكون " مَا " مصدرية هي اسم " إنَّ "، والخبر الظرف والتقدير : إنَّ قَضَاءَك في هذه الحياة الدنيا، يعني : إن لَكَ الدنيا فقط، ولنا الآخرة.
وقال أبو البقاء : فإنْ كانَ قد قُرِئَ بالرفع فهو خبر " إن " يعني لو قرئ برفع " الحَيَاةُ " لكان خبراً لـ " إنَّ "، ويكون اسمها حينئذ " مَا " وهي موصولة بمعنى الذي، وعائدُها محذوف تقديره : إن الذي تقضيه هذه الحياة الدنيا لا غيرها.
قوله :" وَمَا أَكْرَهْتَنَا " يجوز في " مَا " هذه وجهان : أحدهما : أنها موصولة بمعنى " الَّذِي "، وفي محلها احتمالان : أحدهما : أنَّها منصوبة المحل نسقاً على " خَطَايَانَا " أي ليغفرَ لنا أيضاً الذي أكرهتنا.
والاحتمال الثاني : أنَّها مرفوعة المحل على الابتداء، والخبر محذوف
٣٢٤
تقديره : والذي أكرهتَنا عليه من السحر محطوط عنا، أو لا يؤاخذ به (ونحوه) والوجه الثاني : أنَّها نافية، قال أبو البقاء : وفي الكلام تقديم تقديره : ليغفر لنا خَطَايَانَا من السحر ولم تكرهنا عليه.
وهذا بعيد عن المعنى، والظاهر هو الأول.
و " مِنَ السِّحْرِ " يجوز أن يكون حالاً من الهاء في " عَلَيْه " أو من الموصول.
ويجوز ان تكون لبيان الجنس.
فصل قال المفسِّرون : لَمَّا علم السحرة أنهم متى أصرُّوا على الإيمان أوقع بهم فرعون ما أوعدهم به فقالوا :" اقْضِ مَا أْنْتَ قَاضٍ " لا على وجه الأمر، لكن أظهروا أنَّ ذلك الوعيد لا يزيلهم عن إيمانهم البتة، ثم بيَّنُوا ما لأجله يسهل عليهم احتمال ذلك، فقالوا :﴿إِنَّمَا تَقْضِي هَـاذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ﴾ أي قضاؤك وحكمك أن يكون في هذه الحياة (الدنيا).
وهي نافية تزول عن قريب، ومطلوبنا سعادة الآخرة، وهي باقية.
والعقل يقتضي تحمل الضَّرَر الفاني للتوصل إلى السعادة الباقية.
ثم قالوا :﴿إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا﴾، ولمَّا كان أقرب خطاياهم عهداً ما أظهروه من السحر قالوا :﴿وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ﴾، وفي ذلك الإكراه وجوه : الأول : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إنَّ ملوك ذلك الزمان كانوا يأخذون بعض رعيتهم ويكلفونهم تعلم السحر، فإذا شاخ أحدهم بعثوا إليه أحداثاً ليعلمهم ليكون في كل وقتٍ مَنْ يُحسنه، فقالوا ذلك أي : كُنَّا في التعلم الأول والتعليم ثانياً تكرهُنَا، وهو قول الحسن.
وقال مقاتل : كانت السَّحَرةُ اثنين وسبعين اثنان من القبط وسبعون من بني إسرائيل كان فرعون أكرههم على تعليم السحر.
وقال عبد العزيز بن أبان : قالت السحرة لفرعون أَرِنَا مُوسَى إذا نام، فأراهم نائماً، فوجدوه
٣٢٥
تحرسه عصان، فقالوا لفرعون : إن هذا ليس بسحر، إن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى عليهم إلا أن يعارضوه.
وقال الحسن : إن السحرةَ جَرُوا من المدائن ليعارضوا موسى فأحْضَرُوا بالحشر وكانوا مكرهين في الحضور لقوله :﴿وَابْعَثْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ [الشعراء : ٣٦، ٣٧] وقال عمرو بن عبيد : دعوة السلطان إكراه.
وهذا ضعيف، لأن دعوة السلطان إذا لم يكن معها خوف لم تكن إكراهاً.
ثم قالوا :﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ قال محمد بن إسحاق : خَيْرٌ منكَ ثواباً، وأبقَى عقاباً لمن عصاه.
وقال محمد بن كعب : خيرٌ منكَ إن أطيع وأبْقَى عذاباً منك إن عُصِي.
(وهذا جواب لقوله :﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ﴾ ).
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٢١
قوله :﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً﴾ قيل : هذا ابتداء كلام من الله تعالى وقيل : من تمام قول السحرة ختموا كلامهم بشرح أحوال المجرمين وأحوال المؤمنين في عرصة القيامة.
والهاء في " إنَّه " ضمير الشأن، والجملة الشرطية خبرها، و " مُجْرِماً " حال من فاعل " يأت ".
وقوله :" لاَ يَمُوتُ " يجوز أن يكون حالاً من الهاء في " لَهُ " وأن يكون حالاً
٣٢٦