إنه تُوُسِّع في هذا الظرف فجعل مفعولاً به : أي جعل نفس الموعود نحو : سير عليه فرسخَان وبريدان.
قوله :" فَيَحِلُّ " قرأ العامة فَيَحِل بكسر الحاء واللام من " يَحْلُلْ ".
والكسائي بضمهما.
وابن عيينة وافق العامة في الحاء، والكسائي في اللام.
فالعامة من حَلَّ عليه كذا، أي : وَجَبَ، من حَلَّ الدَّيْنُ يَحِلُّ، أي : وجب قضاؤه، ومنه قوله :﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، ومنه أيضاً :﴿وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾.
وقرأ الكسائي من حَلَّ يَحُلُّ، أي نزل، ومنه ﴿أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ﴾ والمشهور أن فاعل " يَحِلُّ " في القراءتين هو " غَضَبِي " وقال صاحب اللوامح : إنه مفعول به وأن الفاعل ترك لشهرته والتقدير : فيحل عليكم طُغْيَانِكُمْ غَضَبِي، ودل على ذلك " وَلاَ تَطْغَوْا " ولا يجوز أن يسند إلى " غَضِبِي " فيصير في موضع رفع بفعله.
ثم قال : وقد يجذف المفعول للدليل عليه وهو العذاب ونحوه قال شهاب الدين :
٣٤٢
فعندَه أنَّ حَلَّ متعد بنفسه، لأنه من الإحلال كما صرح هو به، وإذا كان من الإحلال تعدَّى لواحدِ، وذلك المتعدي إليه إما " غَضَبِي " (على أن الفاعل) ضمير عائد على الطغيان كما قدَّره، وإما محذوفٌ والفاعل " غَضَبِي "، وفي عبارته قلق.
وقرأ طلحة " لاَ يَحِلَّنَّ عَلَيْكُمْ " بلا الناهية للطغيان فيحق عليكم غضبي، وهو من باب لا أَرَينَّكَ هاهنا.
وقرأ زيد بن علي " وَلاَ تَطْغُوْا " بضم الغين من طغى يطغو كغَزَا يَغْزُو.
وقوله :" فَيَحِلُّ " يجوز أن يكون مجزوماً عطفاً على " لاَ تَطْغَوْا " كذا قل أبو البقاء.
وفيه نظر، إذ المعنى ليس على نهي الغضب أن يَحِلَّ بهم.
والثاني : أنه منصوب بإضمار (أَنْ) في جواب النهي، وهو واضح.
فصل اعلم أن الله تعالى لمَّا أنعم على قوم موسى - عليه السلام - بأنواع النعم ذكرهم، ولا شك أنَّ إزالة الضرر يجب تقديمه على إيصال المنفعة، وإيصال المنفعة الدينية أعظم من إيصال المنفعة الدنيوية، فلهذا بدأ تعالى بإزالة الضرر بقوله :﴿أَنجَيْنَاكُمْ
٣٤٣
مِّنْ عَدُوِّكُمْ﴾
، فإن فرعون كان يُنْزِل بهم أنواع الظلم، والإذلال، والأعمال الشاقة.
ثم ذكر المنفعة الدينية وهي قوله :﴿وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنِ﴾ وذلك أنه أنزل عليهم في ذلك الوقت كتاباً فيه بيان دينهم وشريعتهم، أو لأنهم حصل لهم شرف بسبب ذلك.
قال المفسرون : وليس للجبل يمينٌ ولا يسار بل المراد أنَّ طور سيناء عن يمين السالك من مصر إلى الشام.
ثم ثلَّث بذكر المنفعة الدنيوية فقال :﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ﴾ ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أمر إباحة.
ثم زجرهم عن العصيان فقال :﴿وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ﴾ قال ابن عباس : لا يظلم بعضُكُم بعضاً فيأخذه مِنْ صَاحِبه.
وقال مقاتل والضحاك : لا تظلموا فيه أنفسَكُم بأن تُجَاوِزُوا حدّ الإباحَة وقال الكلبي : لا تكفروا النعمة أي لا تستعينوا بنعمتي على مخالفتي ولا تُعْرِضوا عن الشكر، ولا تعدِلوا عن الحلال إلى الحرام والمراد بالطَّيِّبات هاهنا اللذائذ، لأن المن والسَّلوى من لذائذ الأطعمة.
وقال الكَلْبي ومقاتل : الطَّيِّبات الحلالً، وذلك لأن الله تعالى أنزله إليهم، ولم يمسه يدي الآدميين.
روي أنهم كانوا يُصبِحون فيجدونه بين بيوتهم فيأخذون منه قدر حاجتهم في ذلك اليوم إلى الغد، ومن ادخر لأكثر من ذلك فسد، ومن أخذ منه قليلاً كفاه، أو كثيراً لم يفضل عنه، فيصنعون منه مثل الخبز وهو في غاية البياض والحلاوة، فإن كان آخر النهار غشيهم طيْرُ السَّلوى فينقصون منها بلا كلفة ما يكفيهم لعشائهم، وإذات كان الصيف ظلَّل عليهم الغمام يقيهم حر الشمس.
ثم قال :﴿فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي﴾ أي يجب عليكم غضبي ﴿وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ﴾ أي هَلك وقيل : شَقِي.
وقيل : وقع في الهاوية : هوى يهوي هوياً إذا سقط من علو إلى سُفْلٍ.
٣٤٤


الصفحة التالية
Icon