قوله :﴿فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ﴾ قرأ العامة بكسر الميم وفتح السين، وهو مصدر لفاعل كالقِتَال من قَاتَلَ، فهو يقتضي المشاركة، وفي التفسير : لا تَمسَّنِي ولا أمسك وإن مَنْ مَسَّه أصابته الحمَّى.
وقرأ الحسن وأبُو حيوة وابن أبي عبلة (وقعنب) بفتح الميم وكسر السين، هكذا عبّر أبُو حيَّان، وتبع فيه أبا البقاء.
ومتى أخذنا بظاهر هذه العبارة لزم أن يقرأ " مَسِيس " بقلب الألف ياء لانكسار ما قبلها، ولكن لم يُرْوَ ذلك فينبغي أن يكونوا أرادوا بالكسر الإمالة، ويدل على ذلك ما قاله الزمخشري : وقُرئ " لاَ
٣٧٢
مَساس " بوزن (فَجَارِ).
ونحوه قولهم في الظباء : إنْ وَرَدَتِ المَاءَ فَلاَ عَبَابِ وإنْ فَقَدَتْهُ فَلاَ أَبَابِ (فهي أعلام للمسَّةِ والعبَّة والأبَّةِ وهي المرة من الأبّ وهو) الطلب.
ويدل عليه أيضاً قولُ صاحب اللوامح : هو على صورة (نَزَالِ، ونَظَارِ) من أسماء الأفعال بمعنى (انزل، وانظر).
فهذا أيضاً تصريح بإقرار الألف على حالها.
ثم قال صاحب اللوامح : فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف، ولا تدخل عليها (لا) النافية التي تنصب النكرات نحو : لاَ مَالَ لَكَ.
لكنه فيه نفي الفعل، فتقديره : لا يكون منك مَسَاسٌ، ومعناه النهي، أي : لا تمسَّني وقال ابن عطيَّة :" لا مَسَاسِ " وهو معدول عن المصدر كفجَارِ ونحوه، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزَالِ ودَرَاكِ ونحوه، والشبه صحيح من حيث هي معدولات، وفارقه من حيث أن هذه عدلت عن الأمر و " مَسَاسِ " وفَجَارِ عدلت عن المصدر، ومن هذا قول الشاعر :
٣٧٣
٣٦٨٧ - تَمِيمٌ كَرَهْطِ السَّامِرِيِّ وَقَوْلِهِ
أَلاَ لاَ يُرِيدُ السَّامرِيُّ مَسَاسِ
فكلام الزمخشري وابن عطية يعطي أن " مَسَاسِ " على هذه القراءة معدول عن المصدر كفجار عن الفَجَرة.
وكلام صاحب اللوامح يقتضي أنَّها معدولة عن فعل الأمر إلا (أن يكون مراده) أنها معدولة كما أنَّ اسم الفعل معدول كما تقدم توجيه ابن عطيَّة لكلام أبي عبيدة.
فصل معنى الكلام أنَّك ما دُمتَ حيَّا أن تقول :" لاَ مَسَاسَ " أي لا تخالط أحداً ولا يخالط أحد.
أو أمرِ موسى بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقاربوه، قال ابن عباس لا مَسَاسَ لَكَ ولِوَلَدِكَ.
والمَسَاس من المماسّة معناه لا يَمَسُّ بعضُنا بعضاً، فصار السامري يهيم في الأرض مع الوحوش والسباع لا يمس أحداً.
ولا يمسه أحد، لا تقربني ولا تَمَسَّنِي.
وقيل : كان إذا مَسَّ أحداً أو مسَّه أحدٌ حُمَّا جميعاً، حتى إنَّ بقاياهم اليوم يقولون ذلك.
وإذَا مسَّ أحدٌ من غيرهم أحداً منهم حُمَّا جميعاً في الوقت.
وقال أبو مسلم يجوز أن يريد مسَّ النساء، فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله فلا يكون له من يؤنسه، فيخليه الله من زينة الدنيا (التي ذكرها) في قوله تعالى ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف : ٤٦].
٣٧٤
قوله :﴿وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ﴾.
وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرو " تُخْلِفَهُ " بكسر اللام على البناء للفاعل، أي تجيء إليه ولن تغيب عنه.
والباقون بفتحها على البناء للمفعول وقرأ أبُو نُهَيْك فيما حكاه عنه (ابن خالويه) بفتح التاء من فوق وضم اللام، وحكى عنه صاحب اللوامح كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وابن مسعود والحسن بضم نون العظمة وكسر اللام فأما القراءة الأولى فمعناها : لن تَجِدَهُ مخلفاً كقولك : أحْمَدته وأحببته أي وجدته محموداً وحبَّاباً.
وقيل المعنى : سيصل إليك ولن تستطيع الروغان ولا الحيدة عنه، قال الزمخشري : وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته مخلفاً.
قال الأعشى : ٣٦٨٨ - أثْوَى وَقصَّر لَيْلَهُ لِيُزَوَّدَا
فَمَضَى وَأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدَا
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٧٢
ومعنى الثانية لَنْ يَخْلِفَ الله موعده الَّذِي وَعَدَك.
وفتحُ اللام اختيار أبي عبيد، كأنَّه قال موعداً حقاً لا خُلْفَ فيه، ولن يُخلِفَ الله، والمعنى أن الله يكافئك على فعلك ولا تفر منه.
وأما قراءتا أبي نُهَيْك فهما من خلفهُ يخلفُهُ إذا جاء بعده أي الموعد الذي لك لا يدفع قولَك الذي تقوله، وهي مشكلة، قال أبو حاتم : لا نعرف لقراءة أبي نُهَيْك مذهباً.
وأما قراءة ابن مسعود فأسند الفعل فيها إلى الله
٣٧٥
تعالى، والمفعول الأول محذوف، أي لن (يخلفكه).
قوله :" ظَلْتَ " العامَّة على فتح الظاء وبعدها لام ساكنة.
وابن مسعود وقتادة والأعشى بخلاف عنه وأبو حَيْوَة وابن أبي عبلة ويحيى بن يعمر كسر الظَّاء، وروي عن ابن يَعْمَر ضمها أيضاً.
وأبيّ والأعمش في الرواية الأخرى " ظَلِلْتَ " بلامين أولهما مكسورة فأمَّا قراءة العامة ففيها حذف أحد المِثلين وإبقاء الظاء على حالها من حركتها، وإنما حذف تخفيفاً، وعده سيبويه في الشاذ، يعني شذوذ قياس لا شذوذ استعمال، وعدَّ معه ألفاظاً أُخَر نحو مَسْتُ وَأَحَسْتُ.
كقوله :
٣٦٨٩ - أَحَسْنَ بِهِ (فَهُنَّ إِلَيْكَ شُوسُ)