عن الحسن أيضاً " ويُحْشَرُ " مبنينَّا للمفعول " المُجْرِمُونَ " رفع به و " زُرْقاً " حال من المجرمين، والمراد زرقةُ العُيون، وجاءت الحال هنا بصفة تشبه اللازمة، لأن أصلها على عدم اللزوم، ولو قلتَ في الكلام : جاءَنِي زيدٌ أزرق العينين لم يجز إلا بتأويل.

فصل قيل : الصور قرن ينفخ فيه بدعائه الناس للحشر.


وقيل : إنه جمع صورة، والنَّفخُ نفخ الرُّوح فيه، ويدل عليه قراءة من قرأ " الصٌّوَر " بفتح الواو.
والأول أولى لقوله تعالى :﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾ [المدثر : ٨] والله تعالى يعرف الناس أمور الآخرة بأمثال ما شُوهِدَ في الدنيا، ومن عادة الناس النفخُ في البوق عند الأسفار وفي العساكر.
والمراد من هذا النفخ هو النفخة الثانية لقوله بعد ذلك :﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً﴾ فالنفخ في الصور كالسبب لحشرهم، فهو كقوله :﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً﴾ [النبأ : ١٨].
والزرقة هي الحضرة في سواد العين، فيُحْشَرُون زرق العيون سود الوجوه.
فإن قيل : أليس أنَّ الله تعالى أخبر يُحْشَرُونَ عُمْياً فكيف يكون أعمى وأزرق ؟
٣٨٣
فالجواب لعله يكون أعمى في حال : وأزرق في حال.
وقيل :" زُرْقاً " أي عُمْياً، قال الزجاج : يخرجون زُرْقاً في أول الأمر ويُعْمَون في المحشر.
وسوادُ العين إذا ذهب تزرق.
فإن قيل : كيف يكون أعمى، وقد قال الله تعالى :﴿لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم : ٤٢] وشخوص البصر من الأعمى محال، وأيضاً قد قال في حقهم :﴿اقْرَأْ كَتَابَكَ﴾ والأَعْمَى كيف يقرأ ؟ فالجواب أن أحوالهم قد تختلف.
وقيل : المراد بقوله :" زُرْقاً " أي زرق العيون، والعرب تتشاءَمُ بها.
وقيل يجتمع مع الزرقة سواد الوجه.
قال أبو مسلم : المراد بالزرقة شخوص أبصارهم، والأزرق شاخص فإنه لضعف بصره يكون محدِّقاً نحو الشيء، وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره، وهي كقوله :﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾ وروى ثعلب عن ابن الأعرابي :" زُرْقاً " عِطَاشاً، قال لأنهم من شدة العطش يتغير سوادُ أعينهم حتى تزرَقُّ لقوله تعالى :﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً﴾ [مريم : ٨٦] وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي :" زُرْقاً " طامعين (فيما لا يَنَالُونَه).

فصل قالت المعتزلة : لفظُ المجرمين يتناول الكفار والعُصاة فيدل على عدم العفو عن


٣٨٤
العصاة.
وقال ابن عباس : يريدُ بالمجرمين الذين اتخذوا مع الله إلهاً آخر وتقدم هذا البحث.
قوله :" يَتَخَافَتُونَ " يجوزُ أن يكون مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً ثانية من " المُجْرِمينَ "، وأن يكونَ حالاً من الضمير المستتر في " زرقاً " فتكون حالاً متداخلة، إذ هي حال (من حال).
ومعنى " يَتَخَافَتُونَ " أي : يتشاوَرُونَ فيما بينهم، ويتكلمون خفية، يقال : خَفَتَ يَخْفِتُ، وخَافَتَ مُخَافَتَة، والتَّخافُت السرار نظيره قوله تعالى :﴿فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً﴾ [طه : ١٠٨]، وإنما يتخافتون، لأنه إمتلأت صدورُهُمْ من الرعب والهول، أو لأنهم بسبب الخوفِ صارُوا في نهاية الضعف فلا يطيقون الجهر.
وقوله :" إن لَبِثْتُمْ " هو مفعول المارة، وقوله :" إلاَّ عَشْراً " يجوز أن يراد الليالي، وحذف التاء من العدد قياسي.
وأن يراد الأيام، فيُسْأَل لِمَ حذفت التاء ؟ فقيل : إنه إذا لم يذكر المميز في عدد المذكر جازت التاء وعدمها، سمع من كلامهم : صُمْنَا من الشهر خَمْساً، والصَّوْمُ إنما هو الأيام، دون اللَّيالي.
وفي الحديث " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وأتْبَعَهُ بستّ مِنْ شَوَّال "، وحسن الحذف هنا لكونه رأس آية وفاصلة.
٣٨٥


الصفحة التالية
Icon