أحدها : قال العُتبي : يقال للرجل يخيط ثوبه خاط ثوبه، ولا يقال : هو خياط حتى يعاوده ويعتاده، ويصير معروفاً بالخياطة.
وهذه الزلة لم تصدر عن آدم أن تكون هذه الواقعة إنما وقعت قبل النبوة، لم يجز بعد أن قبل الله توبته وشرَّفه بالرسالة والنبوة إطلاق هذا الاسم عليه كما لا يقال لمن أسلم بعد الكفر أو شرب أو زنا ثم تاب وحسنت توبته لا يقال له بعد ذلك كافر أو شارب أو زانٍ فكذا هنا.
وثالثها : أن قولنا : عاصٍ وغاوٍ يُوهِمُ كونه عاصياً في أكثر الأشياء، (وغاوياً عن معرفة الله تعالى) ولم ترد هاتان اللفظتان في القرأن مطلقتين بل مقرونتين بالقصة التي عَصَى فيها، فكأنه قال : عصى في كيت وكيت، وذلك لا يوهم ما ذكرنا.
ورابعها : أنه يجوز من الله ما لا يجوز من غيره، كما يجوز للسيد من ولده وعبده عند معصيته من إطلاق القول ما لا يجوز لغيره.
قوله :﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾ أي : اختاره واصطفاه، " فَتَابَ عَلَيْه " بالعفو وهداه إلى التوبة حين قال :﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ [الأعراف : ٢٣].
قال عليه السلام : لو جُمِع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاؤه أكثر ولو جمع ذلك إلى نوح لكان بكاؤه أكثر، وإنما سمي نوحاً لنوحه على نفسه.
ولو جمع ذلك كله إلى بكاء آدم على خطيئته كان بكاؤه أكثر.
قال وهب : لمّا كثر بكاؤه أمره الله تعالى أن يقول :" لاَ إلَه إلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ وبحمدِك عَملتُ سوءاً وظَلَمْتُ نفسي فاغفر لي فإنَّكَ خَيْرُ الغَافِرِينَ " فقالها آدم، ثم قال : قل " سُبْحَانَكَ لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ عِمِلْتُ سوءاً وظلَمْتُ نلَفْسِي فتُبْ عليَّ إنَّكَ أنْتَ التَوَّابُ ".
قال ابن عباس : هذه الكلمات التي تلقاها آدم من ربه.
٤١٢
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٤٠٦
قوله :﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً﴾ هنا سؤال وهو أن قوله :" اهْبِطَا " إما أن يكون خطاباً مع شخصين أو أكثر، فإن كان خطاباً مع شخصين فكيف قال بعده :﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم﴾ وهو خطاب الجمع ؟ وإن كان خطاباً مع شخصين فكيف قال :" اهْبِطَا " ؟ وأجاب أبو مسلك : بأن الخطاب لآدم ومعه ذريته، ولإبليس ومعه ذريته، ولكونهما جنسين صح قوله :" اهْبِطَا " ولأجل اشتكال كل من الجنسين على الكثرة صح قوله :﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾.
وقال الزمخشري : لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصل البشر اللذين منهما تفرعوا أنفسُهُما، فخوطِبَا مخاطبتهم، فقيل :﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم﴾ على لفظ الجماعة.
ومن قال : بأنَّ أقَلَّ الجمع اثنان، أو بأنه يعبر عن الاثنين بلفظ الجمع، كقوله :﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم : ٤] فلا يحتاج إلىالتأويل.
قوله :﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ تقدم تفسيره.
﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ﴾ وهذا يدل على أن المراد الذرية والمراد بالهدى الرسل، وقيل : الآيات والأدلة، وقيل : القرآن.
" فَلاَ يَضِلُّ " في الدُّنيا، " وَلاَ يَشْقَى " في الآخرة، لأنه تعالى يهديه إلى الجنة.
٤١٣
وقيل : لا يَضِلُّ ولا يَشْقَى في الدُّنْيَا.
فإن قيل : المتبع لهدى الله قَدْ يَشْقَى في الدنيا.
فالجواب : أن المراد لا يضل في الدين، ولا يشقى بسبب الدين، فإن حصل بسبب آخر فلا بأس.
ولما وعد الله تعالى من يتبع الهُدَى أتْبَعه بالوعيد لمن أعرض فقال :﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي﴾ والذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتبق الله تعالى على ما تقدم.
قوله :" ضَنْكاً " صفة لمعيشة، وأصله المصدر، فكأنه قال : معيشة ذات ضنك، فلذلك لم يؤنث ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد.
وقرأ الجمهور " ضَنْكاً " بالتنوين وصلاً وإبداله ألفاًَ وقفاً كسائر المعربات.
وقرأت فرقة " ضنكى " بالف كسكرى.
وفي هذه الألف احتمالان : أحدهما : أنها بدل من التنوين، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف كما تقدم في نظائره، وسياتي منها بقية إن شاء الله تعالى.
والثاني : أن تكون ألف التأنيث، بُنِي المصدر على (فَعَلَى) نحو دَعْوَى.
والضنك الضيق والشدة، يقال منه : ضَنُكَ عيشُه يَضْنَكُ ضَنَاكَةً وَضَنْكاً، وامرأة ضنَاكٌ كثير لحم البدن، كأنهم تخيلوا ضيق جلدها به.
فصل قال جماعة من المفسرين : الكافر بالله يكون حريصاً على الدنيا طالباً للزيادة فعيشه ضَنْكٌ، وأيضاً فمن الظلمة مَنْ ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة بكفره قال تعالى :﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ [البقرة : ٦١] وقال :{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ
٤١٤


الصفحة التالية
Icon