فصل في تعلق هذه الآية بما قبلها، وهو أن كل من أثبت الله تعالى شريكاً ليس عمدته إلا طلب اللمية في أفعال الله تعالى، وذلك لأن الثنوية والمجوس وهم الذين أثبتوا الشريك لله تعالى، قالوا : رأينا في العالم خيراً وشراً، ولذة وألماً، وحياة وموتاً، وصحة وسقماً، وغنى وفقراً، وفاعل خير وفاعل شر، ويستحيل أن يكون الفاعل الواحد خيراً وشرّيراً معاً، فلا بد من فاعلين ليكون أحدهما فاعلاً (للخير والآخر للشر)، فرجع حاصل هذه القسمة إلى أن مدبر العالم لو كان واحداً فلم خصَّ هذا بالحياة والصحة والغنى، وخصَّ هذا بالموت والألم والفقر.
فيرجع حاصلة إلى طلب اللمية.
لا جرم أنه تعالى بعد أن ذكر الدليل على التوحيد ذكر ما هو النكتة الأصلية في الجواب عن شبهة القائلين بالشريك، لأن الترتيب الجيد في المناظرة أن يبتدأ بذكر الدليل المثبت للمطلوب، ثم يذكر بعده الجواب عن شبهة الخصم.
قوله تعالى :﴿أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً﴾ استعظام لكفرهم، وهو استفهام إنكار وتوبيخ.
﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾ إما من جهة العقل وإما من جهة النقل، واعلم أنه تعالى لما ذكر دليل التوحيد أولاً، وقرر الأصل، الذي عليه تخرج شبهات القائلين بالتثنية أخذ يطالبهم بدليل شبهتهم.
قوله :﴿هَـذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ﴾ العامة على إضافة " ذِكْرُ " إلى " مَنْ " أضاف المصدر إلى مفعوله كقوله تعالى " بِسُؤَالِ نَعْجَتِك ".
وقرئ " ذِكْرٌ " بالتنوين فيهما و " مَنْ " مفتوحة الميم.
نوّن المصدر ونصب به المفعول (كقوله تعالى) ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً﴾ [البلد : ١٤، ١٥].
وقرأ يحيى بن يعمر " ذِكْرٌ " بتنوينهما و " مِنْ " بكسر الميم، وفيه تأويلان :
٤٧٥
أحدهما : أن ثم موصوفاً محذوفاً قامت صفته وهي الظرف مقامه، والتقدير : هذا ذكر من كتاب معي ومن كتاب قبلي.
والثاني : أن " مَعِيَ " بمعنى عندي.
ودخول " من " على " مع " في الجملة نادر، لأنها ظرف لا يتصرف.
وقد ضعف أبو حاتم هذه القراءة، ولم ير لدخول " من " على " مع " وجهاً.
ووجهه بعضهم بأنه اسم هو ظرف نحو (قبل وبعد) فكما تدخل (من) على أخواته كذلك تدخل عليه.
وقرأ طلحة :" ذِكْرٌ مَعِي وذِكْرٌ قَبْلِي " بتنوينهما دون (من) فيهما.
وقرأ طائفة " ذِكْرُ مَنْ " بالإضافة لـ " من " كالعامة ﴿وَذِكْرُ مَن قَبْلِي﴾ بتنوينه وكسر ميم " من " ووجهها واضح مما تقدم.
فصل قال ابن عباس " هذا ذكر من معي " أي : هو الكتاب المنزل على من معي، " وهذا ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي " أي : الكتاب الذي نزل على من تقدمني من الأنبياء وهذه التوراة والإنجيل والزبور والصحف.
وليس في شيء منها أني أذنت بأن تتخذوا إلهاً من دوني بل
٤٧٦
ليس فيها إلا أنني أنا الله لا إله إلا أنا كما قال بعد هذا :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا اا إِلَـاهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ﴾.
وهذا اختيار القفال والزجاجا.
وقال سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي : معناه : القرآن ذكر من معي فيه خبر من معي على ديني، ومن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وذكر خبر من قبلي من الأمم السالفة ما فعل بهم في الدنيا وما يفعل بهم في الآخرة.
وقال القفال : المعنى : قل لهم : هذا الكتاب الذي جئتكم به قد اشتمل على أحوال لمن معي من المخالفين والموافقين، فاختاروا لأنفسكم، فكأن الغرض منه التهديد.
ثم قال :﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ﴾ لما طالبهم بالدلالة على ما ادعوه، وبين أنه لا دليل لهم البتة لا من جهة العقل ولا من جهة السمع، ذكر بعده أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم أصل الشر والفساد وهو عدم العلم والإعراض عن استماع الحق.
العامة على نصب " الحَقَّ " وفيه وجهان : أظهرهما : أنه مفعول به بالفعل قبله.
والثاني : أنه مصدر مؤكد.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المنصوب أيضاً على التوكيد لمضمون الجملة لسابقة كما تقول : هذا عبد الله الحق لا الباطل فأكد انتقاء العلم.
وقرأ الحسن وابن محيصن وحميد برفع وحميد برفع " الحَقُّ " وفيه وجهان : أحدهما : أنه خبر لمبتدأ مضمر.
قال لزمخشري " وقرئ " الحَقُّ " بالرفع على توسط التوكيد بين السبب والمسبب والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل.
٤٧٧
قوله تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ﴾ الآية.
اعلم أن هذه الآية مقررة لما سبقها من آيات التوحيد.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " نُوحِي " بالنون وكسر الحاء على التعظيم لقوله " " أَرْسَلْنَا " وقرأ الآخرون بالياء وفتح الحاء على الفعل المجهول.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٤٦٧