فصل اعلم أن للكواكب حركتين الأولى : مجمع عليها وهي حركتها من المشرق إلى المغرب.


والحركة الثانية : قالت الفلاسفة وأصحاب الهيئة : إن للكواكب حركة أخرى من المشرق إلى المغرب، قالوا : وهي ظاهرة في السبعة السيارة خفية في الثابتة، واستدلوا بأنا وجدنا الكواكب السيارة كل ما كان منها أسرع حركة إذا قارن ما هو أبطأ حركة منه تقدمه نحو المشرق.
وهذا في القمر ظاهر جداً، فإنه يظهر بعد الاجتماع بيوم أو يومين من ناحية المغرب على بعد من الشمس، ثم يزداد كل ليلة بعداً منها إلى أن يقابلها وكل كوكب كان شرقياً منه على طريقه على ممر البروج يزداد كل ليلة قرباً منه، ثم إذا أدركه ستره بطرفه الشرقي، وينكشف ذلك الكوكب بطرفه الغربي.
فعلمنا أن لهذه الكواكب السيارة حركة من المغرب إلى المشرق.
وأجيبوا : بأن ذلك محال، لأن الشمس مثلاً إذا كانت متحركة بذاتها من المغرب إلى المشرق حركة بطيئة، وهي متحركة بسبب الحركة اليومية من المشرق إلى المغرب لزم كون الجرم الواحد متحركاً حركتين إلى جهتين مختلفتين دفعة واحدة، وذلك محال، لأن التحرك إلى جهة يقتضي حصول المتحرك في الجهة المنتقل إليها، فلو تحرك الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين، وهو محال.
قالوا : ما ذكرتموه ينتقض بما إذا دارت الرحى إلى جانب والنملة التي تكون عليها متحركة على خلاف ذلك الجانب.
وللكلام في هذه المسألة مكان غير هذا.

فصل والفَلَكُ مدار النجوم، والفَلَكُ في كلام العرب كل مستدير وجمعه أَفْلاَك، ومنه فلك المغزل.


قال الضحاك : الفلك ليس بجسم، وإنما هو مدار هذه النجوم.
وقال الكلبي : الفلك استدارة السماء.
وقال بعضهم : الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه.
وقيل : ماء مجموع تجري فيه الكواكب.
واحتجوا
٤٩٣
بأن السباحة لا تكون إلا في الماء.
وأجيبوا بالمنع، فإنه يقال في الفرس الذي يمدّ يديه في الجري " سابح.
وقال الحسن : الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل.
وقال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة : الأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والالتئام والنمو والذبول.
واختلف الناس في حركات الكواكب، فقال بعضهم : الفلك ساكن والكواكب تتحرك فيه كحركة السمكة في الماء، وقال آخرون : الفلك متحرك، والكواكب تتحرك فيه أيضاً إما مخالفاً لجهة حركته، أو موافقاً لجهته إما بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء أو مخالفة.
وقيل : الفلك متحرك والكواكب مغزورة فيه.
أما الأول فقالت فذلك أيضاً يوجب الخرق، وإن كانت حركتها إلى جهة حركة الفلك فإن كانت مخالفة لها في السرعة والبطء لزم الانخراق، وإن استويا في الجهة والسرعة والبطء فالخرق أيضاً لازم، لأن الكوكب يتحرك بالعرض بسبب حركة الفلك فتبقى حركته الذاتية زائدة فيلزم الخرق.
فلم يبق إلا القسم الثالث، وهو أن يكون الكوكب مغزوراً في الفلك، والفلك يتحرك، فيتحرك الكوكب بسبب حركة الفلك.
واعلم أن مدار هذا الكلام على أن امتناع الخرق على الأفلاك باطلن بل الحق أن الأقسام الثلاثة ممكنة، والله تعالى قادر على كل الممكنات والذي دل عليه لفظ القرآن أن الأفلاك ثابتة و الكواكب جارية كما تسبح السمكة في الماء.

فصل احتج ابن سينا على كون الكواكب أحياء ناطقة بقوله " يَسْبَحُونَ " قال : والجمع


٤٩٤
بالواو والنون لا يكون للعقلاء، وبقوله تعالى :﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف : ٤].
والجواب إنما أتى بضمير العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٤٨١
قوله تعالى :﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾ الآية.
لما استدل بالأشياء المذكورة، وهي من أصول النعم الدنيوية أتبعه بما يدل على أن هذه الدنيا أمرها كذلك يبقى ولا يدوم، وإنما خلقها سبحانه وتعالى للابتلاء والامتحان، وليتوصل بها إلى دار الخلود فقال :﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾.
قال مقاتل : إن ناساً كانوا يقولون : إن محمداً لا يكون فنزلت هذه الآية.
وقيل : كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون به في قولهم : نتربص بمحمد ريب المنون، فنفى الله عنه الشماتة بهذه الآية فقال :﴿أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ قضى الله تعالى أن لا يخلد في الدنيا بشراً لا أنت ولا هم، وفي هذا المعنى قول القائل : ٣٧١٣ - فَقُلْ للشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا
سيلقى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا
وقيل : يحتمل أنه لما أظهر أنه عليه السلام خاتم الأنبياء، وجاز أن يقدم مقدر أنه لا يموت إذ لو مات لتغير شرعه، فنبه الله تعالى على أنه حاله كحال غيره من الأنبياء عليهم السلام في الموت.
٤٩٥


الصفحة التالية
Icon