قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ﴾ الآية.
" رُشْدَهُ " مفعول ثان.
وقرأ العامة " رُشْدَهُ " بضم الراء وسكون الشين، وعيسى الثقفي بفتحها.
والرُّشْدُ والرَّشَدُ كالعُدْم والعَدَم، وقد تقدم الكلام عليهما.
والمراد بالرُّشْدُ : النبوة لقوله ﴿وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾، لأنه تعالى إنَّمَا يخص بالنوبة من يعلم من حاله أنه في المستقبل يقوم بحثها ويجتنب ما لا يليق بها ويحترز عما ينفر قومه من القبول.
وقيلب : الرُّشْد : الاهتداء لوجوه الصلاح في الدين والدنيا لقوله تعالى :﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً﴾ [النساء : ٦] وقيل : يدخل تحت الرشد النبوة والاهتداء.
٥١٦
قوله :" مِنْ قَبْلُ " أي : من قبل موسى وهارون، قاله ابن عباس، وهاذ أحسن ما قدر به المضاف إليه وقيل : من قبل بلوغه أو نبوته حين كان في السرب فظهرت له الكواكب، فاستدل بها، وهذا على قول من حمل الرشد على الاهتداء وإلا لزمه أن يحكم بنبوته - عليه السلام - قبل البلوغ.
قاله مقاتل.
وروى الضحاك عن ابن عباس معنى " مِنْ قَبْلُ " أي : حين كان في صلب آدم لما أخذ الله ميثاق النبيين.
والضمير في " بِهِ " يعود على " إبْرَاهِيمَ ".
وقيل : على " رُشْدَهُ ".
والمعنى : أنه تعالى علم منه أشياء بديعة وأسراراً عجيبة حتى أهّله لأن يكون خليلاً له، وهذا كقولك في رجل كبير : أنا عالم بفلان، فإنَّ هذا الكلام في الدلالة على تعظيمه أدل مما إذا شرحت حال كماله.
فصل دَلَّت الآية على أنَّ الإيمان مخلوق لله تعالى، لأنَّهُ لو كان الرشد هو التوفيق والبيان، وقد فعل الله تعالى ذلك بالكفار فيجب أن يكون قد آتاهم رشدهم.
وأجاب الكعبي : بأنَّ هذا يقال فيمن قَبِلَ لا فيمن ردَّ، وذلك كمن أعطى المال لولدين فقبله أحدهما وثمره، وردَّه الآخر أو أخذه ثم ضيعه، يقال : أغنى فلان ابنه فيمن ثمر المال، ولا يقال فيمن ضيع.
وهذا الجواب لا يتم إلا إذا جعلنا قبوله جزءاً من مسمى الرّشد وذلك باطل، لأنَّ المسمى إذا كان متركباً من جزأين ولا يكون أحدهما مقدر الفاعل لم يجز إضافة ذلك المسمى إلى الفاعل، فكان يلزم أن لا يجوز إضافة الرشد إلى الله تعالى بالمفعولية لكن النص وهو قوله ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ﴾ صريح في أنَّ ذلك الرشد إنما حصل من الله تعالى فبطل قوله.
قوله :" إذْ قَالَ " يجوز أن يكون منصوباً بـ " آتَيْنَا " أو ب، " رُشْدَهُ " أو بـ " عَالِمِينَ " أو بمضمر أي : اذكر وقت قوله.
وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يكون بدلاً من موضع
٥١٧
" قَبْلُ ".
أي : أنه يحب محله فيصح المعنى إذْ يصير التقدير : ولقد آتيناه رشداً إذْ قال.
وهو بعيدٌ من المعنى بهذا التقدير.
قوله :﴿مَا هَـاذِهِ التَّمَاثِيلُ﴾ أي : الصور، يعني : الأصنام.
والتمثال : اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله.
وأصله من مثَّلْتُ الشيء بالشيء : إذا شبهته به، فاسم ذلك المُمَثَّل تِمْثَال.
والتَّمَاثِيلُ : جمع تِمْثَال، وهو الصورة المصنوعة من رخام، أو نحاس، أو خشب، أو حديد ؛ يشبه بخلق الآدمي وغيره من الحيوانات، فال امرؤ القيس : ٣٧٢٤ - فَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهَوْتُ وَلَيْلَةٍ
بِآنِسَةٍ كَأَنَّهَا خَطُّ تِمْثَالِ
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥١٦
قوله :" لَهَا " قيل : اللام للعلة، أي : عاكفون لأجلها.
وقيل : بمعنى (على)، أي : عاكفون عليها.
وقيل : ضمّن " عَاكِفُونَ " معنى عابدين فلذلك أتى باللام وقال أبو البقاء : وقيل : أفادت معنى الاختصاص.
وقال الزمخشري : لم ينو للعاكفين مفعولاً، وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقوله : فاعلون العكوف لها، أو واقفون لها.
فإن قلت : هلاَّ قيل : عليها عاكفون كقوله :﴿يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ﴾ [الأعراف : ١٣٨] قلت : لو قصد التعدية لعداه بصلته التي هي " على ".
قال شهاب الدين : الأولى أن تكون اللام للتعليل وصلة " عَاكِفُونَ " محذوفة أي : عاكفون عليها، أي : لأجلها لا لشيء آخر.
قوله :﴿قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾ " عَابِدِينَ " مفعول ثان لـ " وَجَدْنَا " و " لَهَا " لا تعلق له، لأنَّ اللام زائدة في المفعول به لتقدمه.
٥١٨


الصفحة التالية
Icon