البيان، وقد تقدم نظيره نحو ﴿لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف : ٢١].
فصل اعلم أنَّ القوم لمَّا أوهموه أنه كالمازح في ما خاطبهم به أمر أصنامهم أظهر ذلك بالقول أولاً ثم بالفعل ثانياً.
أمَّا القول فهو قوله :﴿قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وهذا يدل على أنَّ الخالق الذي خلقها لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد لأن القادر على ذلك هو الذي يقدر على الضرر والنفع، وهذه الطريقة هي نظير قوله :﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾ [مريم : ٤٢]، ثم قال :﴿وَأَنَاْ عَلَى ذالِكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي : على أنه لا إله إلا الذي يستحق العبادة إلا هو.
وقيل :﴿مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾ على أنه خالق السموات والأرض.
وقيل : إنِّي قادر علىإثبات ما ذكرته بالحجة، وإني لست مثلكم أقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم.
وقيل : المراد منه المبالغة في التأكيد والتحقيق، كقول الرجل إذا بالغ في مدح آخر أو ذمه : أشهد أنه كريم أو ذميم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥١٦
وأما الفعل فقوله :﴿وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ لأمكرن بها.
قرأ العامة " تَاللهِ " بالتاء المثناة فوق.
وقرأ معاذ بن جبل، وأحمد بن حنبل بالباء الموحدة.
قال الزمخشري : فإن قُلْتَ " ما الفرق بين التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه.
أما قوله : إنَّ الباء في الأصل فيدل على ذلك تصرفها
٥٢٢
في الباب بخلاف الواو والتاء، وإن كان السُّهيلي قد ردَّ كون الواو بدلاً منها.
وقال أبو حيان : النظر يقتضي أن كلاً منهما أصل.
وأما قوله : التعجب فنصوص النحويين أنه يجوز فيها التعجب وعدمه، وإنما يلزم ذلك مع اللام كقوله : ٣٧٢٧ - للهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ
بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيانُ والآسُ
و " بَعْدُ " منصوب بـ " لأكِيدَنَّ "، و " مُدْبِرِينَ " حال مؤكدة، لأن " تُوَلُّوا " يفهم معناها.
وقرأ العامة " تُوَلُّوا " بضم التاء مضارع (وَلَّى) مشدداً.
وقرأ عيسى بن عمر " تَوَلَّوا " بفتحهما مضارع (تَوَلَّى)، والأصل : تتولوا فحذف
٥٢٣
إحدى التاءين إمَّا الأولى على رأي هشام، وإمَّا الثانية على رأي البصريين وينصرها قراءة الجميع ﴿فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾، ولم يقرأ أحد " تُوَلُّوا " وهي قياس قراءة الناس هنا، وعلى كلتا القراءتين فلام الكلمة محذوفة، وهو الياء، لأنه من " وَلَّى "، ومتعلق هذا الفعل محذوف تقديره : تولوا إلى عيدكم ونحوه.
فإن قيل : الكيد ضرر الغير بحيث لا يشعر به ولا يتأتى ذلك في الأصنام فكيف قال :﴿لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ ؟ فالجواب : توسعاً لما كان عندهم أنَّ الضرر يجوز عليها، وقيل : المراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل أنزل بهم الغم.
قوله :" فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً ".
قرأ العامة " جُذَاذاً " بضم الجيم، والكسائي بكسرها وابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال بفتحها.
قال قطرب : هي لغاتها كلها مصدر، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث والظاهر أنَّ المضموم اسم للشيء المكسر كالحطام والرفات والفتات بمعنى الشيء المحطم والمفتت.
وقال اليزيدي : المضموم جمع جُذَاذَة بالضم نحو زجاج في زجاجة، والمكسور جمع جَذِيذ نحو كِرَام في كَرِيم.
وقال بعضهم : المفتوح مصدر بمعنى المفعول أي : مَجْذُوذِينَ.
ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي : ذوات جذاذ.
٥٢٤
وقيل : المضموم جمع جُذَاذَة بالضم، والمكسور جمع جِذَاذَة بالكسر، والمفتوح مصدر وقرأ ابن وثاب " جُذُذاً " بضمتين دون ألف بين الذالين، وهو جمع جَذِيذ كقَلِيب وقُلُبٍ.
وقرئ بضم الجيم وفتح الذال، وفيها وجهان : أحدهما : أن يكون أصلها ضمتين، وإنما خففت بإبدال الضمة فتحة نحو سُرَر وذُلَل في جمع سرير وذليل، وهي لغة لبني كلب.
والثاني : أنه جمع جذَّة نحو قبب في قبة ودرر في درة.
والجذ القطع والتكسير، وعليه قوله : ٣٧٢٨ - بَنُو المُهَلَّبِ جَذَّ اللهُ دَابِرَهُمْ
أَمْسَوا رَمَاداً فَلاَ أصْلٌ وَلاَ طَرَفُ
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٢٢
وتقدم هذا مستوفى في هود.
فإن قيل : لِمَ قال " جَعَلَهُمْ " وهذا جمع لا يليق إلا بالعقلاء ؟ فالجواب عَامَلَ الأصنام مُعَاملة العقلاء حيث اعتقدوا فيها ذلك.
قوله :" إلاَّ كَبِيراً " استثناء من المنصوب في " فَجَعَلَهُمْ " أي : لم يكسره بل تركه
٥٢٥


الصفحة التالية
Icon