الأول : أن يقدر الله بردها بالمقدار الذي لا يؤثر.
والثاني : أنَّ بعض النار صار برداً وبقي بعضها على حرارته فتعادل الحر والبرد.
والثالث : أنه تعالى جعل في جسمه مزيدَ حرٍّ فانتفع بذلك البرد وَالتَذَّ بهِ.
فصل روي أنّ كلّ النيران في ذلك الوقت زالت وصارت برداً، ويؤيد ذلك أنَّ النار اسم للماهية، فر بُدّ وأنْ يحصل هذا البرد في الماهية ويلزم منه عمومه في كل أفراد الماهية وقيل : بل اختصت بتلك النار، لأنّ الغرض إنما تعلق ببرد تلك النار، وفي النار منافع للخلق فلا يجوز تعطيلها، والمراد خلاص إبراهيم لا إيصال الضرر إلى سائر الخلق.
فإن قيل : أفيجو ما روي من أنه لو لم يقل " وَسَلاَماً " لأتى الرد عليه.
قال ابن الخطيب : ذلك بعيد، لأنَّ برد النار لم يحصل منها وإنما حصل من جهة الله تعالى فهو القادر على الحر والبرد، فلا يجوز أن يقال : كان البرد يعظم لولا قوله :" سَلاَماً ".
قوله :﴿وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً﴾ أي : أرَادُوا ان يكيدوه ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ﴾.
قيل : معناه أنهم خسروا السعي والنفقة ولم يحصل لهم مرادهم.
وقيل : فجعلناهم مغلوبين غالبوه فلقنه الله الحجة وقيل : أرسل الله على نمروذ وقومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم، ودخلت واحدة في دماغه فأهلكته.
قوله تعالى :﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ لما نصره الله تعالى أتم النعمة عليه بأن نجاه ونجَّى لوطاً وهو ابن أخيه، وهو لوط بن هاران نجاهما من نمروذ وقومه من أرض العراق إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين يعني مكة، وقيل : أرض الشام بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار، ومنها بعث أكثر الأنبياء.
وقال تعالى :﴿إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء : ١] قال أُبي بن كعب : سماها مباركة، لأنّ ما من ماء عذب وإلا وينبع أصله منتحت الصخرة التي ببيت المقدس وروى قتادة أنّ عمر بن الخطاب قال لكعب : ألا تتحول إلى المدينة فيها
٥٤٢
مهاجر رسول الله - ﷺ - وقبره، فقال إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين أن الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده.
" وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله - ﷺ - يقول :" إنها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم " قوله :" وَلُوطاً " يجوز فيه وجهان : أحدهما : أَنْ يكونَ معطوفاً على المفعول قبله.
والثاني : أَنْ يكونَ مفعولاً معه.
والأول أولى.
وقوله :" إِلَى الأَرْضِ " يجوز فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلق ب، " نَجَّيْنَاهُ " علىأن يتضمن معنى أخرجناه بالنجاة فلما ضمن معنى أخرج تعدى تعديته.
والثاني : أنه لا تضمين فيه وأنَّ حرف الجر يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير في " نَجَّيْنَاهُ " أي : نجيناه منتهياً إلى الأرض كذا قدره أبو حيان وفيه نظر من حيث إنه قدر كوناً مقيداً وهو كثيراً ما يَرُدُّ على الزمخشري وغيره ذلك.
فصل اعلم أنَّ لوطاً آمن بإبراهيم كما قال تعالى ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ [العنكبوت : ٢٦] وكان ابن أخيه، وهو لوط بن هاران بن تارخ، وهاران هو أخو إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث يقال له ناخور بن تارخ، وآمنت به أيضاً سارة، وهي بنت عمه، وهي سارة بنت هاران الأكبر عن إبراهيم فخرج من كوشى من أرض حدود بابل بالعراق مهاجراً إلى ربه ومعه لوط وسارة، فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حَرَّان فمكث بها
٥٤٣
ما شاء الله، ثم ارتحل منها ونزل أرض السبع من فلسطين وهي برية الشام، ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر، ثم خرج من مصر إلى الشام، ونزل لزط بالمؤتفكة، وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة وأقرب، وبعثه الله نبياً، فلذلك قوله :﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٣٧