أحدهما : تسكين آخر الفعل الماضي.
والآخر : إقامة المصدر مع وجود المفعول الصريح.
وقد عرف جوابهما مما تقدم.
الوجه الثالث : أن الأصل " نُنْجِي " كقراءة العامة إلا أن النون الثانية قلبت جيماً وأدغمت في الجيم بعدها.
وهذا ضعيف جداً، لأن النون لا تقارب الجيم فتدغم فيها.
الوجه الرابع : أنه ماض مسند بضمير المصدر أي : نُجِّي النجاءُ كما تقدم في الوجه الثاني، إلا أنَّ " المُؤْمِنِينَ " ليس منصوباً بـ " نُجِّي " بل بفعل مقدر.
وكأن صاحب هذا الوجه فرَّ من إقامة غير المفعول به من وجوده فجعله من جملة أخرى.
وهذه القراءة متواترة، ولا التفات على من طعن على قارئها، وإن كان أبو علي قال : هي لحن.
وهذه جرأة منه، وقد سبقه إلى ذلك أبو إسحاق الزجاج.
وأما الزمخشري فإنما طعن على بعض الأوجه المتقدمة، فقال : ومن تمحل لصحته فجعله فُعِّل، وقال : نُجِّي النجاء المؤمنين، وأرسل الياء وأسنده إلى مصدره، ونصب المؤمنين فمتعسف بارد التعسف.
فلم يرتض هذا التخريج بل للقراءة عنده تخريج آخر، وقد يمكن أن يكون هو المبتدأ به لسلامته مما تقدم من الضعف.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٧٧
قوله تعالى :﴿وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً﴾ الآية.
اعلم أنه تعالى بين
٥٨٦
هاهنا انقطاع زكريا إلى ربه لما مسه الضر بتفرده، وأحب من يؤنسه ويقويه على أمر دينه ودنياه، ويقوم مقامه بعد موته، فدعا الله تعالى دعاء مخلص عارف بقدرة ربه على ذلك، وانتهت به الحال وبزوجه من الكبر وغيره ما يمنع من ذلك بحكم العادة فقال :﴿رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً﴾ وحيداً لا ولد لي، وارزقني وارثاً، ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ ثناء على الله بأنه الباقي بعد فناء الخلق، وأنه أفضل من بقي حياً.
ويحتمل أن يكون المعنى : إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير الوارثين.
قال ابن عباس : كان سنه مائة سنة، وسن زوجته تسعاً وتسعين، ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ أي : فعلنا ما أراده بسؤاله، ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى ﴾ ولداً صالحاً ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ أي : جعلناها ولوداً بعد ما كانت عقيماً.
قاله أكثر المفسرين وقيل : كانت سيئة الخلق سلطة اللسان فأصلح الله خلقها.
وقيل : جعلها مصلحة في الدين، فإن صلاحها في الدين من أكبر أعوانه، لأنه يكون إعانة في الدين والدنيا واعلم أنَّ قوله ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ يدل على أن الواو لا تفيد الترتيب، لأنَّ إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد مع أنه تعالى أخره في اللفظ.
ثم قال :" إنَّهُمْ " يعني الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة.
وقيل : زكريا وولده وأهله ﴿كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾، والمسارعة في طاعة الله من أكبر ما يمدح المرء به، لأنه يدل على حرص عظيم على الطاعة.
قوله :﴿وَيَدْعُونَنَا﴾ العامة على ثبوت نون الرفع قبل (نا) مفكوكة منها وقرأت فرقة ﴿﴾ بحذف نون الرفع.
وطلحة بإدغامها فيها.
وهذا الوجهان فيهما إجراء نون (نا) مجرى نون الوقاية.
وقد تقدم.
قوله :﴿رَغَباً وَرَهَباً﴾ يجوز أن ينتصبا على المفعول من أجله، وأن ينتصبا على أنهما مصدران واقعان موقع الحال، أي : راغبين راهبين، وأن ينتصبا على المصدر الملاقي لعامله
٥٨٧
في المعنى دون اللفظ، لأن ذلك نوع منه.
والعامة على فتح الغين والهاء.
وابن وثاب والأعمش ورويت عن أبي عمرو بسكون الغين والهاء، ونقل عن الأعمش وهو الأشهر عنه بضم اراء وما بعدها.
وقرأت فرقة بضمة وسكون فيهما.
فصل ومعنى " رَغَباً " : طمعاً " وَرَهَباً " : خوفاً، أي : رغباً في رحمة الله، ورهباً من عذاب الله.
﴿وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ﴾ أي : متواضعين، قال قتادة : ذلك لأمر الله.
وقال مجاهد : الخشوع هو الخوف اللازم في القلب.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٨٦
قوله تعالى :﴿وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ الآية.
يجوز أن ينتصب قوله :" وَالَّتِي " نسقاً على ما قبلها، وأن ينتصب بإضمار اذكر، وأن يرتفع بالابتداء، والخبر محذوف، أي : وفيما يتلى عليكم التي أحصنت.
ويجوز أن يكون الخبر " فَنَفَخْنَا " وزيدت الفاء على رأي الأخفش نحو زيد فقائم.
وفي كلام الزمخشري : نفخنا الروح في عيسى فيها.
قال أبو حيان مؤاخذاً له : فاستعمل " نفخ " متعدياً والمحفوظ أنه لا يتعدى فيحتاج في تعديه إلى سماع، وغير متعد استعمله هو في قوله ؛ أي : نفخت في المزمار.
انتهى ما آخذه به.
قال شهاب الدين : وقد سمع " نفخ " متعدياً، ويدل على ذلك ما قرئ في الشاذ " فانفخها فَيَكُونُ طَائِراً "، وقد حكاها هو قراءة، فكيف ينكرها.
فعليك بالالتفات إلى ذلك.
وقال ابن الخطيب : جعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل - عليه
٥٨٨