والثاني : أن تكون الجملة مستأنفة.
والثالث : أن تكون في محل نصب على الحال من " جَهَنَّمَ " وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير مواضع المستثناة.
ومعنى ﴿أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ أي : فيها داخلون.
وإنما جاءت اللام في " لَهَا " لتقدمها تقول : أنت لزيد ضارب.
كقوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون : ٨، المعارج : ٣٢] والمعنى : أنه لا بُدَّ وأن تردوها، ولا معدل لكم من دخولها.

فصل " روى ابن عباس أنه - عليه السلام - دخل المسجد وصَنَادِيد قريش في الحَطِيم.


وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجلس إليهم، فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله ﷺ - حتى أفحمه، ثم تلا عليهم ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ الآية.
فأقبل عبد الله بن الزَّبَعْرَى فرآهم يتهامسون، فقال : فيم خوضكم ؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله.
فقال ابن الزبعرى : انت قلت ذلك ؟ قال نعم.
قال : خصمتك ورب الكعبة، أليس اليهود عُزَيْراً، والنصارى عبدوا المسيح، وين مليح عبدو الملائكة.
فسكت رسول الله - ﷺ - ولم يجب، فضحك القوم "، ونزل قوله تعالى :﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا ااْ أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف : ٥٧، ٥٨].
ونزل في عيسى والملائكة ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى ﴾ [الأنبياء : ١٠١].
وفي رواية
٦٠٥
أخرى أنه - عليه السلام - قال :" بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك " فأنزل - تعالى - ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى ﴾ [الأنبياء : ١٠١] يعني عزيراً والمسيح والملائكة.
قال ابن الخطيب : واعم أنَّ سؤال ابن الزبعرى غير متوجه من وجوه : أحدها : أنَّ ذلك الخطاب كان مع مشركي مكة، وهم كانوا يعبدون الأصنام فقط.
وثانيها : أنه لم يقل : ومن تعبدون بل قال :" وَمَا تَعْبُدُونَ ".
كلمة " مَا " لا تتناول العقلاء، وأما قوله تعالى :﴿وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس : ٥] وقوله :﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون : ٢] فحمول على الشيء، ونظيره هاهنا أن يقال : إنكم والشيء الذي تعبدون من دون الله، لكن لفظ الشيء لا يفيد العموم فلا يتوجه سؤال ابن الزبعرى.
وثالثها : أنَّ مَنْ عَبَدَ الملائكة لا يَدَّعِي أنهم آلهة وقال سبحانه ﴿لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا﴾.
ورابعها : أنه ثبت العموم لكنه مخصوص بالدلائل العقلية والسمعية في حق الملائكة والمسيح وعزير لبراءتهم من الذنوب والمعاصي، ووعد الله إياهم بكل مكرمة، وهو المراد بقوله سبحانه ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى ﴾ [الأنبياء : ١٠١].
وخامسها : الجواب الذي ذكره رسول الله - ﷺ - وهو أنهم كانوا يعبدون الشياطين.
فإن قيل : الشياطين عقلاء ولفظ " مَا " لا يتناولهم، فكيف قال ذلك ؟ قلنا : كأنه - عليه السلام - قال : لو ثبت لكم أنه يتناول العقلاء فسؤالكم أيضاً غير لازم من هذا الوجه.
فإما ما قيل : إنه - عليه السلام - سكت عن إيراد ابن الزبعرى هذا السؤال، فهو خطأ، لأنه لا أقل من أنه - عليه السلام - كان يتنبّه لهذه الأجوبة التي ذكرها المفسرون، لأنه أعلم منهم باللغة وبتفسير القرآن، فكيف يجوز أن تظهر هذه الأجوبة لغيره، ولم يظهر له منها شيء.
فإن قيل : يجوز أن يسكت عليه السلام انتظاراً للبيان.
قلنا : كان البيان حاضراً معه، فلم يجز عليه السكوت، لكي لا يتوهم عليه الانقطاع من سؤالهم.
٦٠٦


الصفحة التالية
Icon