الأول : أن يقال : إنَّ عادة الله تعالى أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار، فلهذا ذكر هذه الآية عقيب تلك الآية فهي عامة في حق كل المؤمنين.
الثاني : أن هذه الآية نزلت في تلك الواقعة لتكون كالتأكيد في دفع سؤال ابن الزبعرى ثم قال : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا هو الحق، أجراها على عمومها، فتكون الملائكة والمسيح وعزير - عليهم السلام - داخلين فيها، لا أنّ الآية مختصة بهم.
ومَنْ قال العبرة بخصوص السبب خصص قوله :" إنَّ الَّذِينَ " بهؤلاء فقط.
قوله :" مِنَّا " يجوز أن يتعلق بـ " سَبَقَتْ "، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " الحُسْنَى " قال الزمخشري :" الحُسْنَى " الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن وهي إما السعادة، وإما البشرى بالثواب، وإما التوفيق للطاعة ثم شرح أحوال ثوابهم فقال :﴿أُوْلَـائِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾.
قال أهل العفو معناه : أولئك عنها مخرجون، واحتجوا بوجهين : الأول : قوله ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ [مريم : ٧١] أثبت الورود، والورود الدخول، فدل على أن هذا الإبعاد هو الإخراج.
والثاني : أن إبعاد الشيء لا يصح إلا إذا كانا متقاربين لأنهما لو كانا متباعدين استحال إبعاد أحدهما عن الآخر، لأنّ تحصيل الحاصل محال.
وقال المعتزلة :﴿أُوْلَـائِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ لا يدخلون النار ولا يقربونها ألبتة.
واحتج القاضي عبد الجبار على فساد الأول بأمور : أحدها : أنَّ قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى ﴾ يقتضي أنّ الوعد بثوابهم قد تقدم في الدنيا، وليس هذا حال من يخرج من النار.
وثانيها : أنه تعالى قال :﴿أُوْلَـائِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ فكيف يدخل في لك من وقع فيها.
وثالثها : قوله :﴿لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا﴾ وقوله :﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ﴾ يمنع من ذلك.
والجواب عن الأول لا نسلم أنّ المراد من قوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى ﴾ هو أن الوعد بثوابهم قد تقدم، ولم لم يجوز أن يكون المراد من " الحُسْنَى " تقدم الوعد بالثواب، (لكن لم قلتم إن الوعد بالثواب لا) يليق بحال من يخرج من النار فإن عنده المحابطة باطلة، ويجوز الجميع بين استحقاق الثواب والعقاب.
وعن الثاني : أنا
٦١٠
بينا أنّ قوله :﴿أُوْلَـائِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ لا يمكن إجراؤه على ظاهره إلا في حق من كان في النار.
وعن الثالث : أن قوله :﴿لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا﴾ مخصوص بما بعد الخروج.
وعلى قول المعتزلة بأن المراد بقوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَـائِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ أنهم لا يدخلون النار ولا يقربونها، يبطل القول بأن جميع الناس يردون النار، ثم يخرجون إلى الجنة، فيجب التوفيق بينه وبين قوله :﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ [مريم : ٧١] وقد تقدم.
قوله :﴿وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ﴾ إلى قوله : وَيَتَلَقاهُك " كل جملة من هذه الجمل يجتمل أن تكون حالاً مما قبلها، وأن تكون مستأنفة، وكذلك الجملة المضمرة من القول العامل في جملة قوله :" هَـذَا يَوْمُكُمُ " إذ التقدير : وتتلقاهم الملائكة يقولون هذا يومكم.
فصل معنى ﴿لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا﴾ أي : صوتها وحركة تلهبها إذا نزلوا منازل لهم في الجنة.
والحس والحسيس : الصوت الخفي.
﴿وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾ مقيمون كقوله :﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ﴾ [الزخرف : ٧١] ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ﴾ النفخة الأخيرة لقوله تعالى :﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ﴾ [النمل : ٨٧].
وقال الحسن : حين يؤمر بالعبد إلى النار.
وقال ابن جريج : حين يذبح الموت وينادي يا أهل الجنة خلود فلا موت.
وقال سعيد بن جبير والضحاك : هو أن تطبق جهنم، وذلك بعد أن يخرج الله منها من يريد أن يخرجه.
﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ﴾.
أي : تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون ﴿هَـذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾.
فإن قيل : أي : بشارة في أنهم لا يسمعون حسيسها ؟ فالجواب : المراد منه تأكيد بعدهم عنها، لأن من قرب منها قد يسمع حسيسها فإن قيل : أليس أهل الجنة يرون أهل النار، فكيف لا يسمعون حسيس النار ؟ فالجواب : إذا حملناه على التأكيد زال هذا السؤال.
٥١١
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٠٩