ومن البناء قوله تعالى :﴿لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ [الروم : ٤] وزعم بعضهم أن " قبل " في الأصل وصف نَابَ عن موصوفه لزوماً.
فإذا قلت :" قمت قبل زيد " فالتقدير : قمت [زماناً قبل زمان قيام زيد، فحذف هذا كله، وناب عنه قبل زيد]، وفيه نظر لا يخفى على متأمله.
واعلم أن حكم " فوق وتحت وعلى وأول " حكم " قبل وبعد " فيما تقدّم.
وقرىء :" بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ " مينياً للفاعل، وهو الله - تعالى - أو جبريل، وقرىء أيضاً :" بِمَا أُنْزِلّ لَيْكَ " بتشديد اللام، وتوجيهه أن يكون سكن آخر الفعل كما يكنه الأخر في قوله :[الرمل]
١٣٤ - إِنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ قدْ خُلِطَ بِجُلْجُلاَنِ
بتسكين " خُلط " ثم حذف همزة " إليك "، فالتقى مِثْلاَن، فأدغم لامه.
و " بالأخرة " متعلّق بـ " يوقنون "، و " يوقنون " خبر عن " هم "، وقدّم المجرور ؛ للاهتمام به كما قدم المنفق في قوله :﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة : ٣] لذلك، وهذه جملة اسمية عطفت على الجملة الفعلية قبلها فهي صلةٌ أيضاً، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر لخلاف :" وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " ؛ لأن وصفهم بالإيقان بالآخرة أوقع من وصفهم بالإنفاق من الرزق، فناسب التأكيد بمجيء الجملة الاسمية، أو لئلا يتكرّر اللفظ لو قيل :" ومما رزقناكم هم ينفقون ".
والمراد من الآخرة : الدَّار الآخرة، وسميت الآخرة آخرة، لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا.
٣٠٠
والآخرة تأنيث آخر مقابل لـ " أول "، وهي صفة في الأصل جرت مجرى الأسماء، والتقدير : الدار الآخرة، والنشأة الآخرة، وقد صرح بهذين الموصوفين، قال تعالى :﴿وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ﴾ [الأنعام : ٣٢] وقال :﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ﴾ [العنكبوت : ٢٠].
و " يوقنون " من أيقن بمعنى : استيقن، وقد تقدّم أن " أفعل " [يأتي] بمعنى :" استفعل " أي : يستيقنون أنها كائنة، من الإيقان وهو العلم.
وقيل : اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكًّا فيه، فلذلك لا تقول : تيقّنت وجود نفسي، وتيقنت أن السماء فوقي، ويقال ذلك في العلم الحادث، سواء أكان ذلك العلم ضرورياً أو استدلالياً.
وقيل : الإيقان واليقين علم من استدلال، ولذلك لا يسمى الله موقناً ولا علمه يقيناً، إذ ليس علمه عن استدلال.
وقرىء :" يُؤْقِنُون " بهمز الواو، وكأنهم جعلوا ضمّة الياء على الواو لأن حركة الحرف بين بين، والواو المضمومة يطرد قبلها همزة بشروط : منها ألاّ تكون الحركة عارضة، وألاّ يمكن تخيفها، وألاّ يكون مدغماً فيها، وألاّ تكون زائدة ؛ على خلاف في هذا الأخير، وسيأتي أمثلة ذلك في سورة " آل عمران " عند قوله :﴿وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ﴾ [آل عمران : ١٥٣]، فأجروا الواو السَّاكنة المضموم ما قبلها مُجْرَى المضمومة نفسها ؛ لما ذكرت لك، ومثل هذه القراءة قراءةُ قُنْبُلٍ " بالسُّؤْقِ " [ص : ٣٣] و " على سُؤْقِهِ " [الفتح : ٢٩] وقال الشاعر :[الوافر] ١٣٥ - أَحَبُّ المُؤْقِدَيْنِ إِلَيَّ مُؤْسَى
وَجَعْدَةُ إِذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩٥
بهمز " المؤقدين ".
وجاء بالأفعال الخمسة بصيغة المضارع دلالة على التجدُّد والحدوث، وأنهم كل وقت يفعلون ذلك.
وجاء بـ " أنزل " ماضياً، وإن كان إيمانهم قبل تمام نزوله تغليباً للحاضر المنزول
٣٠١
على ما لم ينزل ؛ لأنه لا بُدّ من وقوع، فكأنه نزل من باب قوله :﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ [النحل : ١]، بل أقرب منه ؛ لنزول بعضه.
فصل فيما استحق به المؤمنون المدح قال ابن الخطيب : إنه - تعالى - مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بتيقّن وجود الآخرة فقط، بل لا يستحق المدح إلاّ إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب، والسؤال، وإدخال المؤمنين الجَنّة، والكافرين النار.
روي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال :" يا عجباً كل العَجَب من الشَّاك في الله وهو يرى خَلْقَهُ، وعجباً ممن يعرف النَّشْأَةَ الأولى ثم ينكر النَّشْأَة الآخرة، وعجباً ممن ينكر البَعْثَ والنشور، وهو [في] كل يوم وليلة يموت ويَحْيَا - يعني النوم واليقظة - وعجباً ممن يؤمن بالجنّة، ما فيها من النعيم، ثم يسعى لدار الغرور ؛ وعجباً من المتكبر الفخور، وهو يعلم أن نطفةٌ مَذِرَةٌ، وآخره جيفة قَذرة ".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩٥