بمعنى كونها معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليقه وتكوينه، وعلى هذا تأولوا قوله :﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾ [الإسراء : ٤٤].
وقال مجاهد : إنَّ سجود هذه الأشياء سجود ظلها لقوله تعالى :﴿يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ﴾ [النحل : ٤٨].
وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجداً حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين حين يرجع إلى مطلعه.
قوله :﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾.
فيه أوجه : أحدها : أنه مرفوع بفعل مضمر تقديره : ويسجد له كثير من الناس، وهذا عند من يمنع استعمال المشترك في معنييه، والجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وذلك أن السجود المسند لغير العقلاء غير السجود المسند للعقلاء فلا يعطف ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾ على ما قبله لاختلاف الفعل المسند إليهما في المعنى، ألا ترى أن سجود غير العقلاء هو الطواعية والإذعان لأمره، وسجود العقلاء هو هذه الكيفية المخصوصة.
الثاني : أنه معطوف على (ما تقدمه) وفي ذلك ثلاث تأويلات : أحدها : أن المراد بالسجود القدر المشترك بين الكل العقلاء وغيرهم، وهو الخضوع والطواعية، وهو من باب الاشتراك المعنوي.
والتأويل الثاني : أنه مشترك اشتراكاً لفظياً، ويجوز استعمال المشترك في معنييه.
والتأويل الثالث : أن السجود المسند للعقلاء حقيقة ولغيرهم مجاز، ويجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز على خلاف في هذه الأشياء مذكور في كتب الأصول.
الثالث من الأوجه المتقدمة : أن يكون " كَثِيرٌ " مرفوعاً بالابتداء، وخبره محذوف وهو مثاب لدلالة خبر مقابله عليه وهو قوله :﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ كذا قدره الزمخشري، وقدره أبو البقاء مطيعون أو مثابون أو نحو ذلك.
٤٤
الرابع : أن يرتفع " كثير " على الابتداء أيضاً ويكون خبره " مِنَ النَّاسِ " أي من الناس الذين هم الناس على الحقيقة، وهم الصالحون والمتقون.
الخامس : أن يرتفع بالابتداء أيضاً ويبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف " كَثِيرٌ " على " كثير " ثم يخبر عنهم بـ ﴿حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾، ذكر ذلك الزمخشري كما تقدم.
قال أبو حيان بعد أن حكى عن الزمخشري الوجهين الأخيرين قال : وهذان التخريجان ضعيفان.
(ولم يبين وجه ضعفهما).
قال شهاب الدين : أما أولهما فلا شك في ضعفه إذ لا فائدة طائلة في الإخبار بذلك، وأما الثاني فقد يظهر، وذلك أن التكرير يفيد التكثير وهو قريب من قولهم : عندي ألف وألف، وقوله :
٣٧٥٢ - لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وَقَبْرٌ كُنْتَ أَكْرَمَهُمْ
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٤١
وقرأ الزُّهري " وَالدَّواب " مخفف الباء، قال أبو البقاء : ووجهها أنَّه حذف الباء الأولى كراهية التَّضعيف والجمع بين ساكنين.
وقرأ جناح بن حبيش :" وكَبِيرٌ " بالباء الموحدة.
وقرئ " وَكَثِيرٌ حَقًّا " بالنصب، وناصبه محذوف وهو الخبر تقديره : وكثير حق عليه العذاب حقاً، و " العَذَابُ " مرفوع بالفاعلية.
وقرئ " حُقَّ " مبنياً للمفعول.
وقال ابن عطية :﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم أي : وكثير حق عليه العذاب يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره.
فقوله : معطوف على ما تقدم يعني عطف الجمل لا أنه هو وحده عطف على ما قبله بدليل أنه قدره المبتدأ وخبره قوله : يسجد.
٤٥
فصل قال ابن عباس في رواية عطاء :﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾ يوحده، ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ ممن لا يوحده، وروي عنه أنه قال :﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾ في الجنة.
وهذه الرواية تؤكد أن قوله ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾ مبتدأ وخبره محذوف.
وقال آخرون الوقف على قوله ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾ ثم استأنف بواو الاستئناف فقال :﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾.
(وأما قوله تعالى ﴿وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾ فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب) ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم مكرماً لهم.
ثم بين بقوله ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٤١