فصل لما بين أنهم إنما أذنوا في القتال لأجل أنهم ظُلموا، فسر ذلك الظلم بقوله ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ﴾، فبين تعالى ظلمهم لهم بهذين الوجهين : الأول : أنهم أُخرجوا من ديارهم.
والثاني : أخرجوهم بسبب قولهم :" رَبُّنَا اللَّه ".
وكل واحد من الوجهين عظيم في الظلم.
قوله :﴿إِلاَّ أَن يَقُولُواْ﴾.
فيه وجهان : أحدهما : أنه منصوب على الاستثناء المنقطع، وهذا مما يُجمع العرب على نصبه، لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل إليه، وما كان كذا أجمعوا على نصبه نحو : ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر.
فلو توجه العامل جاز فيه لغتان : النصب وهو لغة الحجاز، وأن يكون كالمتصل في النصب والبدل نحو ما فيها أحد إلا حمار.
وإنما كانت الآية الكريمة من الذي لا يتوجه عليه العامل، لأنك لو قلت : الذين أخرجوا من ديارهم إلا أن يقولوا ربنا الله لم يصح.
الثاني : أنه في محل جر بدلاً من " حَقّ ".
قال الزمخشري : أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير، ومثله ﴿هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [المائدة : ٥٩] انتهى.
وممن جعله في موضع جر بدلاً مما قبله الزجاج.
إلا أن أبا حيان رد ذلك فقال : ما أجازاه من البدل لا يجوز، لأن البدل لا يجوز إلا حيث سبقه نفي أو نهي
١٠١
أو استفهام في معنى النفي (نحو : ما قام أحد إلا زيد، ولا يضرب أحد إلا زيد، وهل يضرب أحد إلا زيد) وأما إذا كان الكلام موجباً أو أمراً فلا يجوز البدل (لا يقال : قام القوم إلا زيد، على البدل، ولا يضرب القوم إلا زيد، على البدل) لأن البدل لا يكون إلا حيث يكون العامل يتسلط عليه، ولو قلت : قام إلا زيد، وليضرب إلا عمرو لم يجز.
ولو قلت في غير القرآن : أخرجِ الناس من ديارهم إلا أن يقولوا لا إله إلا الله لم يكن كلاماً، هذا إذا تخيل أن يكون ﴿إِلاَّ أَن يَقُولُواْ﴾ في موضع جر بدلاً من " غَيْر " المضاف إلى " حَقّ "، وأما إذا كان بدلاً من " حق " كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد، لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي غيراً فيصير التركيب : بغير إلا أن يقولوا ؛ وهذا لا يصح، ولو قدرنا (إلا) بغير كما نقدر في النفي ما مررت بأحد إلا زيد، فنجعله بدلاً لم يصح، لأنه يصير التركيب : بغير قولهم ربنا الله، فيكون قد أضيف غير إلى غير، وهي هي، فيصير بغير غير، ويصح في ما مررت بأحد إلا زيد، أن تقول : ما مررت بغير زيد، ثم إن الزمخشري حين مثل البدل وقدره بغير موجب سوى التوحيد، وهذا تمثيل للصفة جعل (إلا) بمعنى سوى، ويصح على الصفة، فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل، ويجوز أن تقول : ما مررت بالقوم إلا زيد على الصفة لا على البدل.
قوله :﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ﴾ تقدم الخلاف فيه في البقرة وتوجيه القراءتين.
وقرأ نافع وابن كثير " لَهُدِمَتْ " بالتخفيف، والباقون بتثقيل الدال على التكثير، لأن المواضع كثيرة متعددة، والقراءة الأولى صالحة لهذا المعنى أيضاً.
قوله :﴿صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾ العامة على " صَلَوات " بفتح الصاد واللام جمع صلاة وقرأ جعفر بن محمد " وصُلُوَات " بضمّهما.
وروي عنه أيضاً بكسر الصاد وسكون اللام.
وقرأ الجحدري بضم الصاد وفتح اللام.
وأبو العالية بفتح
١٠٢
الصاد وسكون اللام، والجحدري أيضاً " وصُلُوت " بضمهما وسكون الواو بعدهما تاء مثناة من فوق مثل صَلْب وصُلُوب والكلبي والضحاك كذلك إلا أنهما أعجما التاء بثلاث من فوقها.
والجحدري أيضاً وأبو العالية وأبو رجاء ومجاهد كذلك إلا أنهم جعلوا بعد الثاء المثلثة ألفاً فقرءوا " صُلُوثا "، وروي عن مجاهد في هذه التاء المثناة من فوق أيضاً، وروي عن الجحدري أيضاً " صُلْوَاث " بضم الصاد وسكون اللام وألف بعد الواو والثاء مثلثة.
وقرأ عكرمة " صِلْوِيثا " بكسر الصاد وسكون اللام وبعدها واو مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت بعدها ثاء مثلثة بعدها ألف وحكى ابن مجاهد أنه قرئ " صِلْوَاث " بكسر الصاد وسكون اللام بعدها واو بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة.
وقرأ الجحدري " وصُلُوْب " مثل كعوب بالباء الموحدة وجمع صليب وفُعُول جمع فَعِيل شاذ نحو ظَرِيف وظُرُوف وأَسينَة وأُسُون.
وروي عن أبي عمرو " صَلَوَاتُ " كالعامة إلا أنه لم ينون، منعه الصرف للعلمية والعجمة، كأنه جعله اسم موضع فهذه أربع عشرة قراءة المشهور منها واحدة وهي هذه الصلوات المعهودة.
ولا بد من حذف مضاف ليصح تسلط الهدم أي مواضع صلوات، أو تضمن " هُدِّمَتْ " معنى عطلت، فيكون قدراً مشتركاً بين المواضع والأفعال فإن تعطيل كل شيء بحسبه، وأخر المساجد لحدوثها في الوجود أو الانتقال إلى الأشرف.
والصلوات في الأمم الملتين صلاة كل
١٠٣


الصفحة التالية
Icon