قلنا : لأن القرآن لم يكن مستقراً على حالة واحدة في زمان حياته، لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها بالسور، فلم تكن تأدية تلك السورة بدون الزيادة سبباً لزوال اللبس.
وثانيهما : لو كان كذلك لاستحق العتاب على فعل الغير، وذلك لا يليق بالحكيم.
الوجه الرابع : أن المتكلم بهذا هو الرسول - عليه السلام - ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه : إما أن يكون قال هذه الكلمة سهواً أو قسراً أو اختياراً.
فإن قالها سهواً كما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا : إنه عليه السلام كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان، فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد، وفرح المشركون بما سمعوا، وأتاه جبريل واستقرأه فلما انتهى إلى الغرانيق قال : لم آتِكَ بهذا، فحزن رسول الله - ﷺ - إلى أن أنزلت هذه الآية.
وهذا ضعيف لوجوه : أحدها : أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع، وحينئذ تزول الثقة عن الشرع.
وثانيها : أن الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة، وطريقتها ومعناها، فإنا نعلم بالضرورة أن واحداً لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها.
وثالثها : هب أنه تكلم بذلك سهواً فكيف لا يتنبه لذلك حين قرأها على جبريل وذلك ظاهر.
وأما إن تكلم بذلك قَسْراً، كما قال قوم إن الشيطان أجبر النبي على التكلم به وهذا أيضاً فاسد لوجوه : أحدها : أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي لكان اقتداره علينا أكثر، فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين، ولجاز في أكثر ما يتكلم به أحدنا أن يكون ذلك بإجبار الشيطان.
وثانيها : أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع الأمان عن الوحي لقيام هذا الاحتمال.
وثالثها : أنه باطل لقوله تعالى حاكياً عن الشيطان ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [إبراهيم : ٢٢]، وقوله تعالى :﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ [النحل : ٩٩]
١٢١
وقال :﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الحجر : ٤٠] ولا شك أنه - عليه السلام - كان سيد المرسلين.
وأما إن كان تكلمه بذلك اختياراً وهاهنا وجهان : أحدهما : أن يقول إن هذه الكلمة باطلة.
والثاني : أن يقول إنها ليست كلمة باطلة.
أما على الأول فذكروا فيه طريقتين : الأول : قال ابن عباس في رواية عطاء : إن شيطاناً يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم، فجاءه جبريل فاستعرضه، فقرأ السورة، فلما بلغ إلى تلك الكلمة.
قال جبريل : أنا ما جئتك بهذا، فقال رسول الله - ﷺ - " أَتَانِي آتٍ عَلَى صُورَتِكَ فَأَلْقَاهُ عَلَى لِسَانِي ".
الطريق الثاني : قال بعض الجهال : إنه - عليه السلام - لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه، ثم رجع عنها.
وهذان القولان لا يرغب فيهما مسلم ألبتة، لأن الأول يقتضي أنه - عليه السلام - ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث.
والثاني يقتضي أنه كان خائناً في الوحي، وكل واحد منهما خروج عن الدين.
وأما الوجه الثاني وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فهاهنا أيضاً طرق : الأول : أن يقال : الغرانيق هم الملائكة، وقد كان ذلك قرآناً منزلاً في وصف الملائكة، فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله ذلك.
الثاني : أن يقال : المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار، فكأنه قال : أشفاعتهن ترتجى ؟ الثالث : أن يقال : ذكر تعالى الإثبات وأراد النفي كقوله ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء : ١٧٦] أي : لا تضلوا، كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله :﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً﴾ [الأنعام : ١٥١] والمعنى أن تشركوا.
وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن، أو في الصلاة بناء على هذا التأويل، ولكن الأصل في الدين
١٢٢


الصفحة التالية
Icon