قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً﴾ الآية لما دل على قدرته بما تقدم أتبعه بأنواع أُخَر من الدلائل على قدرته ونعمته فقال :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ﴾ وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن المراد الرؤية الحقيقية، لأن الماء النازل من السماء يرى بالعين،
١٣٥
واخضرار النبات على الأرض مرئي، فحمل الكلام على حقيقته أولى.
والثاني : المراد ألم تخبر على سبيل الاستفهام.
الثالث : المراد ألم تعلم.
قال ابن الخطيب : والأول ضعيف، لأن الماء وإن كان مرئياً إلا أن كون الله منزلاً له من السماء غير مرئي، وإذا ثبت هذا وجب حمله على العلم، لأن المقصود من تلك الرؤية هو العلم، لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل.
قوله :" فتصبح " فيه قولان : أحدهما : أنه مضارع لفظاً ماض معنى تقديره : فأصبحت، قاله أبو البقاء، ثم قال بعد أن عطفه على " أَنْزَل " : فلا موضع له إذاً.
وهو كلام ضعيف، لأن عطفه على " أنزل " يقتضي أن يكون له محل من الإعراب وهو الرفع خبراً لـ " أن ".
لكنه لا يجوز لعدم الربط.
الثاني : أنه على بابه، ورفعه على الاستئناف.
قال أبو البقاء : فهي، أي : القصة، و " تُصْبِح " الخبر.
قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى تقدير مبتدأ، بل هذه جملة فعلية مستأنفة لا سيما وقَدَّر المبتدأ ضمير القصة ثم حذفه، وهو لا يجوز، لأنه لا يؤتى بضمير القصة إلا للتأكيد والتعظيم والحذف ينافيه.
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : فأصبحت، ولم صرف إلى لفظ المضارع.
قلت : لنكتة فيه، وهي إفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان كما تقول : أنعَمَ عليَّ فلان عام كذا، فأروح وأغدو شاكراً له، ولو قلت : فَرِحْتُ وغَدَوْتُ لم يقع ذلك الموقع.
فإن قلت : فما له رفع ولم ينصب جواباً بالاستفهام.
قلت : لو نصب لأعطى عكس الغرض، لأن معناه إثبات الاخضرار، فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار، مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر.
إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر، وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله.
وقال ابن عطية : قوله :" فَتُصْبِِحُ " بمنزلة قوله : فتضحى أو تصير، عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة، ووقع قوله :" فتُصْبحُ " من حيث
١٣٦
الآية خبر، والفاء عاطفة وليست بجواب، لأن كونها جواباً لقوله :" أَلَمْ تَر " فاسد المعنى.
قال أبو حيان : ولم يبين هو ولا الزمخشري قبله كيف يكون النصب نافياً للاخضرار، ولا كون المعنى فاسداً.
قال سيبويه : وسألته - يعني الخليل - عن ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ فقال : هذا واجب وتنبيه، كأنك قلت : أتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا.
قال ابن خروف : وقوله : هذا واجب.
وقوله : فكان كذا.
يريد أنهما ماضيان وفسر الكلام بـ " أتسمع ".
(ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام) لضعف حكم الاستفهام فيه.
وقال بعض شراح الكتاب :" فتُصْبِحُ " لا يمكن نصبه، لأن الكلام واجب، ألا ترى أن المعنى أن الله أنزل فالأرض هذه حالها.
وقال الفراء :" ألَمْ تَر " خبر، كما تقول في الكلام : اعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا.
ويقول : إنما امتنع النصب جواباً للاستفهام هنا، لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام، وإن كان يقتضي تقريراً في بعض الكلام، هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ﴾ [الأعراف : ١٧٢] وكذلك الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب.
فإذا قلت : ما تأتينا فتحدثنا.
بالنصب، فالمعنى ما تأتينا محدثاً، وإنما تأتينا ولا تُحَدَِّث، ويجوز أن يكون المعنى أنك لا تأتي فكيف تحدث، فالحديث منتف في الحالتين، والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته الهمزة وينفي الجواب، فيلزم من هذا التقدير إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار، وهو خلاف المقصود.
١٣٧
وأيضاً فإن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء كقوله :
٣٧٧٥ - أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِركَ الرُّسُومُ
يتقدر : إن تسأل تخبرك الرسوم، وهنا لا يتقدر : إن تر إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة، لأن اخضرارِها ليس مترتباً على علمك أو رؤيتك إنما هو مترتب على الإنزال.
وإنما عبر بالمضارع، لأن فيه تصوير الهيئة التي الأرض عليها والحالة التي لابست الأرض، والماضي يفيد انقطاع الشيء، وهذا كقول جحدر بن معاوية يصف حاله مع أسد نازله في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف الثقفي، وهي أبيات فمنها : ٣٧٧٦ - يَسْمُو بِنَاظِرَتَيْنِ تَحْسَبُ فِيْهمَا
لَما أَجَالَهُمَا شُعَاعَ سِرَاجِ
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ١٣٥
لَما نَزَلْتَ بِحصْنٍ أَزْبَرَ مِهْصَرٍ
لِلْقِرْنِ أَرْوَاح العِدَا مَحَّاجِ
فَأَكِرُّ أَحْمِلُ وَهو يُقْعِي باسْتِه