والوجه في إنعامه علينا بذلك أنه جعلها موضعاً لأرزاقِنَا بإنزال الماء منها، وجعلها مقراً للملائكة، ولأنها موضع الثواب، ومكان إرسال الأنبياء ونزول الوحي.
قوله :﴿وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾ أي : بل كنا لهم حافظين من أن تسقط عليهم الطرائق السبع فتهلكهم، وهذا قول سفيان بن عيينة، وهو كقوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ﴾ [فاطر : ٤١]، وقوله :﴿وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ﴾ [الحج : ٦٥]، وقال الحسن : إنا خلقناهم فوقهم ليدل عليهم بالأَرزاق والبركات منها.
وقيل : خلقنا هذه الأشياء دلالة على كمال قدرتنا، ثم بَيَّن كمال العلم بقوله :﴿وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾ يعني : عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم وذلك يفيد نهاية الزجر.
وقيل : وما كنا عن خلق السموات غافلين بل نحن لها حافظين لئلا تخرج عن التقدير الذي أردناها عليه كقوله تعالى :﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَـانِ مِن تَفَاوُتِ﴾ [الملك : ٣].
واعلم أن هذه الآيات دالة على مسائل : منها : أنها تدل على وجود الصانع، فإن انقلاب هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى تضاد الأولى مع إمكان بقائها على الصفة الأولى يدل على أنه لا بد من مغير.
ومنها : أنها تدل على فساد القول بالطبيعة، فإن شيئاً من تلك الصفات لو حصلت بالطبيعة لوجب بقاؤها، وعدم تغيرها، ولو قيل : إنما تغيرت تلك الصفات لتغير تلك الطبيعة افتقرت تلك الطبيعة إلى خالق وموجد.
ومنها : أنها تدل على أنّ المدبر قادر عالم، لأنَّ الجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة.
ومنها : أنها تدل على أنه عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات.
ومنها : أنها تدل على جواز الحشر والنشر بصريح الآية، ولأنّ الفاعل لما كان قادراً على كل الممكنات وعالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على إعادة التركيب إلى تلك الأجزاء كما كانت.
١٨٦
ومنها : أنّ معرفة الله يجب أنْ تكون استدلالية لا تقليدية، وإلاَّ لكان ذكر هذه الدلائل عبثاً.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ١٨٥
قوله تعالى :﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ﴾ الآية، لما استدل أولاً على كمال القدرة بخلق الإنسان، ثم استدل ثانياً بخلق السموات، استدّل ثالثاً بنزول الأمطار، وكيفية تأثيرها في النبات.
واعلم أنّ الماء في نفسه نعمة، وهو مع ذلك سبب لحصول النعم، فلا جَرم ذكره الله أولاً ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانياً.
قال أكثر المفسرين : إنه تعالى يُنزل الماء في الحقيقة من السماء لظاهر الآية، ولقوله :﴿وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات : ٢٢].
وقال بعضهم : المراد بالسماء السحاب، وسماه سماء لعلوه، والمعنى : أنّ الله صعد الأجزاء المائية من قعر الأرض، ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد، ثم إن تلك الذرّات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله على قدر الحاجة إليه، ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض، ولا بماء البحر لملوحته، ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض، لأنّ البحار هي الغاية في العمق، وهذه الوجوه التي يتحملها من ينكر الفاعل المختار، فأمّا من أَقرَّ به فلا حاجة به إلى شيء منها.
وقوله :" بِقَدَرٍ " قال مقاتل : بقدر ما يكفيهم للمعيشة من الزرع والغرس والشرب، ويَسْلَمُون معه من المضرة.
وقوله :﴿فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ﴾ قيل : جعلناه ثابتاً في الأرض، قال ابن عباس : أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سَيْحُونَ وجَيْحُونَ ودجلة والفرات والنيل أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل -
١٨٧


الصفحة التالية
Icon