وقيل : أعمل بطاعة الله تعالى.
وقيل : أعمل صالحاً فيما قصّرتُ، فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية، وهذا أقرب، لأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿لَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحاً﴾ كيف يجوز أن يسأل الرجعة مع الشك.
فالجواب : ليس المراد بـ " لَعَّلَ " الشك فإِنَّه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطي ما سأل، فهو مِثْل من قَصّر في حق نفسه، وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير، فيقول : مكنُونِي من التدارك لعلى أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازماً بأنه سيتدارك.
ويحتمل أيضاً أنَّ الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردُوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين فقد قال تعالى :﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ [الأنعام : ٢٨].
قوله :" كَلاَّ " كلمة ردع وزجر أي : لا ترجع.
معناه المنع طلبوا، كما يقال لطالب الأمر المُسْتبعد : هَيْهَات.
ويحتمل أن يكون ذلك إخباراً بأنهم يقولون ذلك، وأنّ هذا الخبر حق، فكأنّه تعالى قال : حقاً إنّها كلمة هو قائلها.
والأول أقرب.
قوله :" إِنَّهَا كَلِمةٌ " من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله :" أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد " يعني قوله :
٣٨١٠ - أَلاَ كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِل
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٥٢
وقد تقدم طرف من هذا في آل عمران.
و " هُوَ قَائِلُهَا " صفة لـ " كَلِمَة ".
٢٥٦
والمراد بالكلمة : سؤاله الرجعة : كلمة هو قائلها ولا ينالها، وقيل : معناه لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه.
قوله :" وَمِنْ وَرَائِهِمْ " أي : أمامهم وبين أيديهم.
" بَرْزَخٌ " البرزخ : الحاجز بين المسافتين وقيل : الحجاب بين الشيئين أن يصل أحدهما إلى الآخر، وهو بمعنى الأوّل.
وقال الراغب : أصلة برْزَة بالهاء فعُرّب، وهو في القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة والبرزخ قبل البعث المنع بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها.
قال مجاهد : حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا.
(وقال قتادة : بقيّة الدنيا).
قال الضحاك : البرزخ ما بين الموت إلى البعث.
وقيل : القبر وهم فيه إلى يوم يبعثون.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٥٢
قوله :﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ الآية لمَّا قال :﴿وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون : ١٠٠] ذكر أحوال ذلك اليوم فقال :﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ وقرأ العامة بضم الصاد وسكون الواو، وهو آلة إذا نُفِخ فيها ظهر صوت عظيم جعله الله علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات، قال عليه السلام :" إِنَّه قَرْنٌ يُنفخُ فِيه " وقرأ ابن عباس والحسن : بفتح الواو جمع صُورة.
والمعنى : فإذا نُفخ في الصور أَرْوَاحها وقرأ أبو رزين : بكسر الصاد وفتح الواو، وهو شاذ.
هذا عكس (لُحَى) بضم اللام جمع (لِحْية) بكسرها.
وقيل : إنّ النفخ في الصور استعارة، والمراد منه البعث والحشر.
٢٥٧
قوله :" فَلا أَنْسَابَ " الأنساب جمع نَسَب، وهو القرابة من جهة الولادة، ويُعبّر به عن التواصل، وهو في الأصل مصدر قال : ٣٨١١ - لاَ نَسَبَ اليَوْمَ وَلاَ خُلَّةً
اتسعَ الخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ
قوله :" بَيْنَهُم " يجوز تعلقه بنفس " أَنْسَابَ "، وكذلك " يَوْمَئِذٍ "، أي : فلا قربة بينهم في ذلك اليوم.
ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنّه صفة لـ " أَنْسَابَ "، والتنوين في " يَوْمَئِذٍ " عوض عن جملة تقديره : يومئذ نفخ في الصور.
فصل من المعلوم أنَّه تعالى إذا أَعادهم فالأنساب ثابتة، لأنّ المعاد هو الولد والوالد، فلا يجوز أن يكونَ المراد نفي النسب حقيقة بل المراد نفي حكمه وذلك من وجوه : أحدها : أنّ من حق النسب أنْ يقع به التعاطف والتراحم كما يُقال في الدنيا : أسألك باللَّه والرحم أن تفعل كذا، فنفى سبحانه ذلك من حيث أنَّ كل أحد من أهل النار يكون مشغولاً بنفسه، وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب كما أنَّ الإنسان في الدنيا إذا كان في آلام عظيمة ينسى ولده ووالده.
وثانيها : أنَّ من حق النسب أنْ يحصل به التفاخر في الدنيا، وأنْ يسأل البعض عن أحوال البعض، وفي الآخرة لا يَتَفَرغونَ لذلك.
وثالثها : أنّ ذلك عبارة عن الخوف الشديد، فكل امرئٍ مشغول بنفسه عن نسبه وأخيه وفصيلته التي تؤويه.
قال ابن مسعود : يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينادي منادٍ ألا إنّ هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه، فيفرح المرء يومئذ
٢٥٨


الصفحة التالية
Icon