فصل لما شرح صفات القيامة استدل على وجودها بأنّه لولا القيامة لما تميّز المُطيع عن العاصي، والصديق عن الزنديق، وحينئذ يكون هذا العالم عَبَثاً، وهو كقوله :﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة : ٣٦].
والمعنى : أَنَّما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عزَّ وجلَّ.
" رُوي أن رجلاً مُصاباً مُرَّ به على ابن مسعود فَرَقَاهُ في أذنيه ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ حتى ختمها، فَبَرأ، (فقال رسول الله ﷺ بماذا رقيته في أذنه فأخبره) فقال رسول الله ﷺ :" والذي نفسي بيده لو أنّ رجلاً موقناً قرأها على جبل لَزَال " ثم نَزّه نفسه عما يصفه به المشركون فقال :﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾، والمَلِكُ : هو المالك للأشياء الذي لا يزول ملكه وقدرته، والحَقّ : هو الذي يحق له الملك، لأنّ كل شيء منه وإليه، والثابت الذي لا يزول ملكه.
﴿لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ قرأ العامة " الكريم " مجروراً نعتاً للعرش، وُصف بذلك لتنزُّل الخيرات منه والبركات والرحمة.
أو لِنسْبته إلى أكرم الأكرمين، كما يُقال : بَيْتٌ كَريم إذا كان ساكنوه كراماً.
وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل عن ابن كثير وأبان بن تغلب بالرفع وفيه وجهان : أحدهما : أنّه نعت للعرش أيضاً، ولكنه قطع عن إعرابه لأجل المدح على خبر مبتدأ مضمر.
وهذا جيّد لتوافق القراءتين في المعنى.
والثاني : أنه نعت لـ (رَبّ).

فصل قال المفسرون : العرش السرير الحسن.


وقيل : المرتفع.
وقال أبو مسلم : العرش هنا السموات بما فيها من العرش الذي تطوف به الملائكة، ويجوز أن يُراد به
٢٧١
الملك العظيم.
والأكثرون : على أنّه العرش حقيقة.
قوله :" وَمَنْ يَدْعُ " شرط، وفي جوابه وجهان : أحدهما : أنه قوله :" فَإِنَّما حِسَابُهُ " وعلى هذا ففي الجملة المنفية وهي قوله :﴿لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ وجهان : أحدهما : أنها صفة، لـ " إِلهاً " وهي صفة لازمة، أي : لا يكون الإله المَدْعو من دون الله إلاّ كذا، فليس لها مفهوم لفساد المعنى.
ومثله ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام : ٣٨] لا يفهم أنّ ثمَّ إِلهاً آخر مَدْعُوًّا من دون الله له برهان، وأن ثمَّ طَائِراً يطيرُ بغير جناحيه.
والثاني : أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه، وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقوله وهي صفة لازمة كقوله :" يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ " جِيءَ بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان، ويجوز أن يكون اعتراضاً بين الشرط والجزاء كقولك : مَنْ أَحْسَن إلى زيدٍ لا أحد أَحقُّ بالإحسان منه فاللَّهُ مثيبه.
والثاني من الوجهين الأَولين : أن جواب الشرط قوله :﴿لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ كأنه فرَّ من مفهوم الصفة لِمَا يلزم من فساده، فوقع في شيء لا يجوز إِلاّ في ضرورة شعر، وهو حذف فاء الجزاء من الجملة الاسمية كقوله : ٣٨١٤ - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرهَا
والشَّرُّ بِالشَّر عِنْدَ اللَّهِ سِيَّانِ
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٦٧
وقد تقدّم تخريج كون ﴿لاَ بُرْهَانَ لَهُ﴾ على الصفة، ولا إشكال، لأنها صفة لازمة، أو على أنها جملة اعتراض.
فصل لمّا بيَّن أنَّه ﴿الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ﴾ أتبعهُ بأن من ادّعى إلهاً آخر فقد ادّعى
٢٧٢
باطلاً، لأنه ﴿لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ لا حجّة ولا بيّنة، لأنه لا حجّة في دعوى الشرك، وهذا يدل على صحة النظر وفساد التقليد.
ثم قال :" فَإِنَّما حِسَابُهُ " أي : جزاؤه عند ربه يجازيه بعمله كما قال :﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ [الغاشية : ٢٦] كأنّه قال : إن عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلاّ الله.
قوله :﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ فشتّان ما بين فاتحة السورة وخاتمتها.
قرأ الجمهور بكسر همزة (إنّه) على الاستئناف المفيد للعلة.
وقرأ الحسن وقتادة " أَنَّه " بالفتح، وخرّجه الزمخشري على أن يكون خبر " حِسَابُه " قال : ومعناه حسابه عدم الفلاح، والأصل حساب أنّه لا يفلح هو، فوضع الكافرون في موضع الضمير، لأن " مَنْ يَدْعُ " في موضع الجمع، وكذلك حسابه أنّه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون.
انتهى.
ويجوز أن يكون ذلك على حذف حرف العلة أي : لأنّه لا يفلح.
وقرأ الحسن :" لاَ يَفْلحُ " مضارع (فَلح) بمعنى (أَفْلَح) (فَعَل) و(أَفْعَل) فيه بمعنى، والله أعلم.
فصل المعنى لا يسعد من جحَد وكذّب، وأمر الرسول بأن يقول :﴿رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ﴾ ويثني عليه بأن " خَيْرُ الرَّاحِمِينَ "، وقد تقدّم بيان كون " أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ".
فإن قيل : كيف اتصال هذه الخاتمة بما قبلها ؟ فالجواب : أنّه سبحانه لما شرح أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر بالانقطاع إلى الله والالتجاء إلى غفرانه ورحمته، فإنهما العاصمان عن كل الآفات والمخافات.
رُوي أنَّ أَوَّل سورة (قد أفلح) وآخرها من كنوز العرش من عَمِل بثلاثِ آياتٍ من أولها، واتعظ بأربع من آخرها فقد نَجَا وأفلح.
وروَى الثعلبي في تفسيره عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله - ﷺ - :" من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالرَّوْحِ والرَّيْحَانِ، وما تقرّ بِهِ عَيْنُه عند نزول ملك الموت ".
٢٧٣
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٦٧


الصفحة التالية
Icon