قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ﴾ الآية.
في خبر " إِنَّ " وجهان : أحدهما : أنه عصبةٌ و " مِنْكُمْ " صفته.
قال أبو البقاء :" وبه أفاد الخبر ".
والثاني : أن الخبر الجملة من قوله :" لاَ تَحْسَبُوهُ "، ويكون " عُصْبَةٌ "، بدلاً من فاعل " جَاءوا ".
قال ابن عطية : التقدير : إنَّ فعل الذين، وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون " عُصْبَةٌ " خبر (إِنَّ).
كذا أورده عنه أبو حيان غير معترض عليه ؛
٣١١
والاعتراض عليه واضح من حيث أنه أوقع خبر " إِنَّ " جملة طلبية، وقد تقدم أنه لا يجوز وإن ورد منه شيء في الشعر أُوِّلَ كالبيتين المتقدمين.
وتقدير ابن عطية ذلك المضاف قبل الموصول ليصحّ به التركيب الكلامي، إذ لو لم يقدر لكان التركيب " لاَ تَحْسَبُوهُمْ ".
ولا يعود الضمير في " لا تَحْسَبُوهُ " على قول ابن عطية على الإفك لئلا تخلو الجملة من رابط يربطها بالمبتدأ.
وفي قول غيره يجوز أن يعود على الإفك، أو على القذف، أو على المصدر المفهوم من " جَاءُوا "، أو على ما نال المسلمين من الغم.
فصل سبب نزول هذه الآية ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم رووا عن عائشة قالت : كان رسول الله - ﷺ - إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، قالت : فأقرع بيننا في غزوة غزاها قبل بني المصطلق فخرج بها سهمي، فخرجت مع رسول الله - ﷺ - بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج فسِرْنَا حتى إذا فرغ رسول الله - ﷺ - من غزوته تلك وقفل دنونا من المدينة قافلين نزل منزلاً ثم آذَنَ بالرحيل، فقمت حين آذنوا ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني
٣١٢
أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظَفَار وقد انقطع، فرجعت والتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يُهْبَّلْنَ ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العُلْقَة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن فظنوا أني في الهودج، وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعدما اسْتَمَرَّت الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني ويعودون في طلبي، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش يتبع أمتعة الناس يحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب شيء، فلما رآني عرفني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحتله فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها، وانطلق يقود بي حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول، وافتقدني
٣١٣
الناس حين نزلوا، وماج الناس في ذكري، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم، فتكلم القوم وخاضوا في حديثي.
قالت : فَهَلَك مَنْ هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أُبيّ ابن سَلولٍ.
قال عروة : لم يسلم من الإفك إلا حسان بن ثابت، ومسطح بن أُثاثة، وحمنة بنت جحش.
في أناس آخرين لا علم بهم غير أنهم عصبة كما قال عزَّ وجلَّ.
قال عروة : وكانت عائشة تكره أن يُسَب عندها حسان وتقول : إنه هو الذي قال : ٣٨١٨ - فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضي ـ لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ قالت عائشة : وقدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة، ولم أر فيه - عليه السلام - ما عهدته من اللطف الذي كنت أعرف منه، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك، فاشتكيت حتى قدمت شهراً، وهو يريبني في وجعي أنَّي لا أرى من رسول الله - ﷺ - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل عليّ رسول الله - ﷺ - فيسلم ثم يقول :" كيف تيكُمْ " ؟ ثم ينصرف، فذلك يَريبُني، ولا أشعر بالشر، حتى خرجت حين نقهت، فخرجت مع أم مِسْطَح قِبَلَ المناصع وكان
٣١٤


الصفحة التالية
Icon