كنت ألممت بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه قالت : فلمَّا قضى رسول الله - ﷺ - مقالته قلص دمعي حتى ما أحسُّ منه قطرة، (فقلت) لأبي : أجب عني رسول الله - ﷺ - فيما قال.
فقال : والله ما أردي ما أقول لرسول الله.
فقلت لأمي : أجيبي رسول الله - ﷺ - فقالت أمي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله - ﷺ - فقلت وأنا جارية حديثة السِّن لا أقرأ من القرآن كثيراً : إني والله لقد علمت أنكم قد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم : إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقونني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حين قال :﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف : ١٨] ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم وأنا أعلم أني حينئذ بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يُتلى، ولَشَأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأَمْرٍ، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - ﷺ - رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما قام رسول الله - ﷺ - من مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر فيه العرق مثل الجمان في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه.
قالت : فسري عن رسول الله - ﷺ - وهو يضحك، وكان أول كلمة تكلم بها أن قال :" يا عائشة، أما الله قد برأك " قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه.
فقلت : فوالله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله.
قالت : وأنزل الله ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ..
العشر آيات.
فقال أبو بكر : والله لا أنفق على مِسْطَح بعدها، وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره، فأنزل الله :﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ..
[النور : ٢٢] إلى قوله :" غَفُورٌ رَحِيمٌ ".
فلما سمع أبو بكر قوله تعالى :﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [النور : ٢٢] قال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي.
فرجع إلى النفقة على مِسْطح وقال : والله لا أنزعها منه أبداً.
قال : فلما نزل عُذْري قام رسول الله - ﷺ - فذكر
٣١٧
ذلك وتلا القرآن، فلما نزل ضرب عبد الله بن أُبيِّ ومِسْطَح وحسَّان وحَمنَة الحد.

فصل الإفك : أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وهو أسوأ الكذب.


وسمي إفكاً لكونه مصروفاً عن الحق من قولهم : أفك الشيء : إذا قلبه عن وجهه.
قيل : هو البهتان وأجمع المسلمون على أن المراد : ما أفك به على عائشة.
وإنما وصف الله ذلك الكذب بكونه إفكاً لكون المعروف من حال عائشة خلافه، وذلك من وجوه : الأول : أن كونها زوجة المعصوم يمنع من ذلك، لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعونهم ويستعطفونهم، فيجب ألا يكون معهم ما ينفر عنهم، وكون زوجة الإنسان مسافحة من أعظم المنفرات.
فإن قيل : كيف جاز أن تكون امرأة الرسول كافرة كامرأة نوح ولوط، ولم يجز أن تكون فاجرة ؟ وأيضاً فلو لم يجز لكان الرسول أعرف الناس بامتناعه ولو عرف ذلك لما خاف ولما سأل عائشة عن كيفية الواقعة ؟ فالجواب عن الأول : أن الكفر ليس من المنفرات بخلاف الفجوز فإنه من المنفرات.
والجواب عن الثاني : أنه عليه السلام كثيراً ما يكون يضيق قلبه من أقوال الكفار مع علمه بفساد ذلك، كما قال تعالى :﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ [الحجر : ٩٧] فهذا من ذاك الباب.
الثاني : أن المعروف من عائشة قبل تلك الواقعة إنما هو الصون والبعد عن مقدمات الفجور، ومن كان كذلك كان اللائق إحسان الظن به.
الثالث : أن القاذفين كانوا من المنافقين وأتباعهم، وكلام المفتري ضرب من الهذيان.
فلمجموع هذه كان ذلك القول معلوم الفساد قبل نزول الوحي.
٣١٨
فصل العُصْبَةُ : قيل : الجماعة من العشرة إلى الأربعين، وكذلك العِصَابَة، وهم عبد الله بن أُبيّ رأس المنافقين، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم.
قوله :" كِبْرَهُ " العامة على كسر الكاف.
وضمّها في قراءته الحسن والزهري وأبو رجاء وأبو البرهسم وابن أبي عبلة ومجاهد وعَمْرة بنت عبد الرحمن.
ورويت أيضاً عن أبي عمرو والكسائي.
فقيل : هما لغتان في مصدر : كبر الشيء، أي : عظم، لكن غلب في الاستعمال أن المضموم في السن والمكانة، يقال : هو كُبر القوم بالضم، أي : أكبرهم سناً أو مكانة، وفي الحديث قصة مُحَيْصَة وحويصة :" الكُبْرَ الكُبْرَ ".
وقيل : بالضم : معظم الإفك.
وبالكسر : البداءة.
وقيل : بالكسر : الإثم.
قوله :" مِنْكُم "
٣١٩


الصفحة التالية
Icon