(وقال الجبائي : تقلب القلوب والأبصار) : تغير هيئاتها بسبب ما ينالها من العذاب.
قال : ويجوز أن يريد به تقليبها على جمر جهنم كقوله :﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام : ١١٠].
قوله :" لِيَجْزِيَهُمْ ".
يجوز تعلقه بـ " يُسَبِّحُ " أي : يُسَبِّحون لأجل الجزاء.
ويجوز تعلقه بمحذوف، أي : فعلوا ذلك ليجزيهم.
وظاهر كلام الزمخشري أنه من باب الإعمال، فإنه قال : والمعنى : يُسبِّحونَ وَيَخَافُونَ (لِيَجْزيهمْ " ).
ويكون على إعمال الثاني للحذف من الأول.
وقوله :﴿أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ﴾ أي : ثواب أحسن، أو أحسن جزاء ما عملوا، و " ما " مصدرية، أو بمعنى الذي، أو نكرة.

فصل المراد بالأحسن : الحسنات أجمع، وهي الطاعات فرضها ونفلها.


قال مقاتل : إنما ذكر الأحسن لأنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم، بل يغفرها لهم.
وقيل : يجزيهم جزاء أحسن ما عملوا على الواحد عشر إلى سبعمائة.
ثم قال :﴿وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ﴾ أي : ما لم يستحقوه بأعمالهم.
فإن قيل : هذا يدل على أن لفعل الطاعة أثر في استحقاق الثواب، لأنه تعالى ميز الجزاء عن الفضل، وأنتم لا تقولون بذلك، فإن عندكم العبد لا يستحق على ربه شيئاً ؟ قلنا : نحن نثبت الاستحقاق بالوعد، فذلك القدر هو الذي يستحق، والزائد عليه هو الفضل.
ثم قال :﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ وذلك تنبيه على كمال قدرته، وكمال جوده، وسعة إحسانه، فكأنه تعالى لما وصفهم بالجد والاجتهاد في الطاعة، وهم مع ذلك في نهاية الخوف، فالحق سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم.
٣٩٨
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٩١
قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا ااْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾ الآية.
لما بيَّن حال المؤمن أنه في الدنيا يكون في النور، وبسببه يكون متمسكاً بالعمل الصالح ثم بين أنه يكون في الآخرة فائزاً بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أتبع ذلك ببيان أن الكافر يكون في الآخرة في أشد الخسران، وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات، وضرب لكل واحد منهما مثلاً، أما المثل الدال على حسرته في الآخرة فقوله :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا ااْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾.
قال الأزهري :" السَّرَابُ : ما يتراءى للعين وقت الضحى في الفلوات شبيهاً بالماء الجاري وليس بماء، ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماء جارياً، يقال : سَرَبَ الماءُ يَسْرُبُ سُرُوباً : إذَا جرى، فهو سَارِبٌ ".
وقيل : السَّرَابُ : مَا يَتَرَاءَى للإنْسَانِ في القَفْرِ في شِدَّةِ الحَرِّ مِمَّا يُشْبهُ المَاءَ.
وقيل : مَا يَتَكَاثَفُ مِنْ قُعُورِ القيعَانِ.
قال الشاعر : ٣٨٣٦ - فَلَمَّا كَفَفْت الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهم
كَلَمْع سَرَابٍ في الفَلاَ مُتَألِّقِ
يضرب به المَثَلُ لمن يَظُنُّ بشيءٍ خيراً فَيُخْلَفُ ظَنُّهُ.
وقيل : هو الشُّعَاعُ الذي يُرَى نِصْفَ النَّهَارِ في شدة الحَرِّ في البراري، يُخَيَّلُ للناظر أنه الماء السَّارِبُ، أي : الجاري، فإذا قرب منه لم ير شيئاً.
والآل : ما ارتفع من الأرض وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه المَلاَة يرفع الشخوص، يرى فيها الصغير كبيراً، والقصير طويلاً.
٣٩٩
والرَّقْرَاقُ : يكون بالعشايا.
وهو ما ترقرق من السراب، أي : جاء وذهب.
قوله :" بِقِيعَةٍ " فيه وجهان : أحدهما : أنه متعلِّق بمحذوف على أنه صفة لـ " سَرَابٍ ".
والثاني : أنه ظرف، والعامل فيه الاستقرار العامل في كاف التشبيه.
والقيعة : بمعنى القاع، قاله الزمخشري، وهو المُنْبَسِطُ من الأرض، وتقدم في " طه ".
وقيل : بل هي جمعه كـ " جَارٍ وَجيرَة " قاله الفراء.
وقرأ مسلمة بن محارب بتاء (ممطوطة)، وروي عنه بتاء شَكل الهاء، ويقف عليها بالهاء، وفيها أوجه : أحدها : أن يكون بمعنى " قيعة " كالعامة، وإنَّما أشبع الفتحة فتولَّد منها ألف كقوله : مُخرنبقٌ لينباع.
قاله صاحب اللوامح.
والثاني : أنه جمع :" قيعة " وإنَّما وقف عليها بالهاء ذهاباً به مذهب لغة طيئ في قولهم :" الإخْوَه والأخَوَاه " و " دَفْنُ البَنَاه من المَكْرُماه " أي : والأخوات، والبنات، والمكرمات.
وهذه القراءة تؤيد أن " قيعة " جمع قاع.
٤٠٠


الصفحة التالية
Icon