بعضهم كان الضمير في " يَغْشَاهُ " عائداً عليه، وكانت الجملة حالاً منه لتخصيصه بالإضافة، أو صفة له.
قوله :﴿مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾ يجوز أن تكون هذه جملة من مبتدأ وخبر صفة لـ " مَوْجٍ " الأول ويجوز أن يجعل الوصف الجار والمجرور فقط، و " مَوْجٌ " فاعل به، لاعتماده على الموصوف، قوله :﴿مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾ فيه الوجهان المذكوران قبله من كون الجملة صفة لـ " مَوْجٍ " الثاني، أو الجار فقط.
قوله :" ظُلُمَاتٌ ".
قرأ العامة بالرفع، وفيه وجهان : أجودهما : أن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره : هذه أو تلك ظلمات.
الثاني : أن يكون " ظُلُمَاتٌ " مبتدأ، والجملة من قوله :﴿بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ خبره، ذكره الحوفي وفيه نظر، لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة، اللهم إلا أن يقال : إنها موصوفة تقديراً، أي : ظلمات كثيرة متكاثفة، كقولهم :" السمن منوان بِدِرْهم ".
وقرأ ابن كثير :" ظُلُمَاتٍ " بالجر، إلا أنَّ البزِّي روى عنه حينئذ حذف التنوين من " سَحَابُ " فقرأ البَزِّيُّ عنه :" سَحَابُ ظُلُمَاتٍ " بإضافة " سَحَابُ " لـ " ظُلُمَاتٍ ".
وقرأ قُنْبُل عه التنوين في " سَحَابٌ " كالجماعة مع جره لـ " ظُلُمَاتٍ ".
فأما رواية البزِّي فقال أبو البقاء : جَعَلَ المَوْجَ المُتَرَاكم بمنزلة السحاب.
وأما رواية قنبل فإنه جعل " ظُلُمَاتٍ " بدلاً من " ظُلُمَاتٍ " الأولى.
قوله :﴿بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ جملة من مبتدأ وخبر في موضع رفع أو جر على حسب القراءتين في " ظُلُمَاتٍ " قبلها لأنها صفة لها.
وجوَّز الحوفي على قراءة رفع " ظُلُمَاتٍ "
٤٠٤
في " بَعْضُها " أن تكون بدلاً من " ظُلُمَاتٌ " ورد عليه من حيث المعنى، (إذ المعنى) على الإخبار بأنها ظلمات، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض وصفاً لها بالتَّراكم، لا أنَّ المعنى أنَّ بعض تلك الظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلماتٌ متراكمة.
وفيه نظرٌ، إذ لا فرق بين قولك : بعض الظلمات فوق بعضٍ، وبين قولك : الظلماتُ بعضُهَا فوق بعض، وإن تُخُيِّل ذلك في بادئ الرأي.
قوله :﴿إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾.
تقدم الكلام في " كاد " وأنَّ بعضهم زعم أنَّ نَفْيَهَا إثباتٌ وإثباتها نفيٌ، وتقدمت أدلة ذلك في البقرة عند قوله :﴿وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة : ٧١].
وقال الزمخشري هنا :﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ مبالغة في (لَمْ يَرَهَا) أي : لم يَقْرُب أن يَرَاهَا فَضلاً (عن) أن يراها، ومنه قوله ذي الرمة : ٣٨٣٧ - إذَا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ
رَسِيسُ الهَوَى مِنَ حُبِّ مَيَّة يَبْرَحُ
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٩٩
أي : لم يَقْرُبْ مِنَ البِرَاحِ فَمَا بَالُهُ يَبْرحُ.
وقال أبو البقاء : اختلف الناس في تأويل هذا الكلام، ومنشأ الاختلاف فيه أنَّ موضوع " كَادَ " إذا نفيت وقوع الفعل، وأكثر المفسرين على أن المعنى : أنه لا يرى يَدَهُ، فعلى هذا في التقدير ثلاثة أوجه : أحدها : أن التقدير : لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَكَدْ، ذكره جماعةٌ من النحويين، وهذا خطأ لأن قوله :" لَمْ يَرَهَا " جَزْمٌ بنفي الرؤية، وقوله :" لَمْ يَكَدْ " إذا أخرجها على مقتضى الباب كان التقدير : وَلَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية، فإن أراد هذا القائل أنه لم يكد يراها وأنه يراها بعد جَهْدٍ، تناقض، لأنه نفى الرؤية ثم أثبتها.
وإن كان معنى ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ لم يَرَها البتَّة على خلاف الأكثر في هذا الباب فينبغي أن يحمل عليه من غير أن يقدِّر " لَمْ يَرَهَا ".
٤٠٥
الوجه الثاني : قال الفراء : إن (كَادَ) زائدة.
وهو بعيد.
الثالث : أن " كَادَ " خرِّجت هاهنا على معنى " قَارَبَ " والمعنى : لم يُقَارِب رؤيتها، وإذا لم يُقَارِبها بَاعَدَها، وعليه جاء قول ذي الرمة في البيت المتقدم، أي : لم يقارب البراح، ومن هنا حكي عن ذي الرُّمة أنه لما روجع في هذا البيت قال :(لم أجِد) بدل (لَمْ يَكَدْ).
والمعنى الثاني : أنه رآها بعد جَهد، والتشبيه على هذا صحيح، لأنه مع شدة الظلمة إذا أحدَّ نظره إلى يده وقرَّبها من عينه رآها انتهى.
أما الوجه الأول وهو ما ذكره أن قول الأكثرين (إنه يكون نَفْيُها إثباتاً، فقد تقدم أنه غير صحيح، وليس هو قول الأكثر) وإنما غرّهم في ذلك آية البقرة، وما أنشد بعضهم :
٣٨٣٨ - أَنَحْوِيَّ هَذَا العَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَةٌ
البيتين.
٤٠٦


الصفحة التالية
Icon