" يُؤَلِّفُ ".
وقالون عن نافع والباقون يهمزون " يُؤَلِّفُ ".
قوله :﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً﴾ أي : متراكماً يركب بعضها على البعض ويتكاثف، والعرب تقول : إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاماً بالريح عصر بعضه بعضاً فخرج الودق منه، ومن ذلك قوله تعالى :﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً﴾ [النبأ : ١٤]، ومن ذلك قول حسان بن ثابت : ٣٨٣٩ - كِلْتَاهُمَا حَلَبُ العَصِيرِ فَعَاطِنِي
بِزُجَاجَة أرْ خَاهُمَا لِلمَفْصَلِ
وروي :" لِلْمِفْصَلِ " بكسر الميم وفتح الصاد.
فالمَفْصَلُ : واحد المفاصل.
والمِفْصَل : اللسان.
وروي بالقاف.
أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت، أي : من عصير العنب، وهذه من عصير السحاب، نقله ابن عطية.
وقال أهل الطبائع : إن تكوين السحاب والمطر والثلج والبرد والطل والصقيع في أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار، وفي الأقل من تكاثف الهواء.
أما الأول فالبخار الصاعد إن كان قليلاً وكان في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فحينئذ ينحل وينقلب هواء، وإن كان البخار كثيراً ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلله فتلك الأبخرة المتصاعدة إمّا أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا تبلغ.
فإن بلغت فإما أن يكون البرد قوياً أو لا يكون.
فإن لم يكن البرد هنا قوياً تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد واجتمع وتقاطر، فالبخار المجتمع هو السحاب، والمتقاطر هو المطر، والديمة والوابل إنما يكون من أمثال هذه الغيوم.
وإن كان البرد شديداً فلا يخلو إما أن يصل البرد إلى الإجزاء البخارية قبل اجتماعها وانحلالها حبات كبار أو بعد صيرورتها كذلك.
فإن كان على الوجه الأول نزل ثلجاً.
وإن كان على الوجه الثاني نزل برداً فإن لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة الباردة فإما أن تكون كثيرة أو قليلة.
٤١٥
فإن كانت كثيرة فقد تنعقد سحاباً ماطراً، وقد لا تنعقد.
أما الأول فلأسباب خمسة : أحدها : إذا منع هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة.
وثانيها : أن تكون الرياح (ضاغطة) إياها إلى الاجتماع بسبب وقوف جبال قدام الريح.
وثالثها : أن تكون هناك رياح متقابلة متصادمة فتعود الأبخرة حينئذ.
ورابعها : أن يعرض للبخار المتقدم وقوف لثقله وبطء حركته يلتص به سائر الأجزاء الكثيرة المدد.
وخامسها : لشدة برد الهواء القريب من الأرض، وقد نشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعوداً يسيراً حتى كأنه مكبة موضوعة على وَهْدَة، ويكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة، والذين يكونون تحت الغمامة يمطرون، والذين يكونون فوقها يكونون في الشمس.
فإن كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة، فإذا مر بها برد الليل وكثفها، فإنها تصير ماءً محبوساً ينزل أولاً متفرقاً لا يحس به إلا عند اجتماع شيء يعتد به، فإن لم يجمد كان طلاًّ، وإن جمد كان صقيعاً، ونسبة الصقيع إلى الطل نسبة الثلج إلى المطر.
والجواب (أنَّا دللنا على) حدوث الأجسام وتوسلنا بذلك إلى كونه قادراً مختاراً يمكنه إيجاد الأجسام، فلا نقطع بما ذكرتموه (لاحتمال أنه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذي ذكرتموه) وأيضاً فهب أن الأمر كما ذكرتم، ولكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلا بد لها من مؤثر، ثم إنها متماثلة، فاختصاص كل واحد منها بصفته المعينة من الصعود والهبوط واللطافة والكثافة والحرارة والبرودة لا بد له من مخصص، فإذا كان هو سبحانه خالقاً لتلك الطبائع، فتلك الطبائع في هذه الأحوال لا بد لها من سبب، وخالق السبب خالق المسبب، فكان سبحانه هو الذي يُزْجي سحاباً، لأنه هو الذي خلق تلك الطبائع المحركة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جو الهواء، ثم تلك الأبخرة
٤١٦
ترادفت في صعودها والتصق بعضها بالبعض، فهو سبحانه هو الذي جعلها ركاماً، فعلى جميع التقديرات توجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة والحكمة.
قوله :﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾.
تقدم الخلاف في " خِلاَلِ " هل هو مفرد كحجاب أم جمع كجِبَال جمع " جبل " ؟ ويؤيد الأول قراءة ابن مسعود والضحاك - وتُرْوَى عن أبي عمرو أيضاً - " مِنْ خَلَلِهِ " بالإفراد وقرأ عاصم والأعرج :" يُنَزِّل " على المبالغة.
والجمهور على التخفيف.
والوَدْق : قيل : هو المطر ضعيفاً كان أو شديداً، قال : ٣٨٤٠ - فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا
وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٤١٤
وقيل : هو البرق، وأنشد : ٣٨٤١ - أَثَرْنَ عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ مِنْهَا
خُرُوجَ الوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ


الصفحة التالية
Icon