لأن قوله :﴿فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾ يُحوجك إلى مفعول يعود الضمير إليه، فيكون تقديره : ويُنَزِّلُ مِنْ جِبَال السماء جبالاً فيها بَرَدٌ، وفي ذلك زيادة حَذْفٍ وتقدير مستغنًى عنه.
وفي كلامه نَظَرٌ، لأن الضمير له شيءٌ يعود عليه وهو " السَّمَاء "، فلا حاجة إلى تقدير شيء آخر، لأنه مستغنى عنه، وليس ثَمَّ مانعٌ يمنع من عوده على " السَّمَاء ".
وقوله آخراً : وتقدير يستغنى عنه ينافي قوله : وهذا الوجه هو الصحيح.
والضمير في " به " يجوز أن يعود على البَرَدِ وهو الظاهر، ويجوز أن يعود على الوَدْق والبَرَد معاً جرياً بالضمير مُجْرَى اسم الإشارة، كأنه قيل : فيصيب بذلك، وقد تقدم نظيره.
فصل قال ابن عباس : أخبر الله أن في السماء جبالاً من برد، ثم ينزل منها ما شاء وهو قول أكثر المفسرين.
وقيل : المراد بالسماء هو الغيم المرتفع، سمي بذلك لسموه وارتفاعه، وأنه تعالى أنزل من الغيم الذي هو سماء البرد.
وأراد بقوله :" مِنْ جِبَالٍ " : السحاب العظام، لأنها إذا عظمت شبهت بالجبال كما يقال : فلان يملك جبالاً من مال، ووصف بذلك توسعاً.
وذهبوا إلى أن البرد ماء جامد خلقه الله في السحاب، ثم أنزل إلى الأرض.
وقال بعضهم : إنما سمي ذلك الغيم جبالاً لأنه سبحانه خلقها من البرد، وكل جسم متحجر فهو من الجبال، ومنه قوله تعالى :﴿خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء : ١٨٤].
قال المفسرون : والأول أولى، لأنَّ السماء اسم لهذا الجسم المخصوص، فتسمية السحاب سماء بالاشتقاق مجاز، وكما يصح أن يجعل الماء في السحاب ثم ينزله برداً، فقد يصح في القدرة جعل هذين الأمرين في السماء، فلا وجه لترك الظاهر.
قوله :﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي : بالبرد من يشاء فيهلك زرعه وأمواله ﴿وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ﴾ أي : يصرف ضرره عمن يشاء بأن لا يسقطه عليه.
قوله :﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ﴾.
العامة على قصر " سَنَا " وهو الضوء، وهو من ذوات الواو، يقال : سَنَا يَسْنُو سَناً، أي أضاء يُضِيء، قال امرؤ القيس :
٣٨٤٢ - يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبِ
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٤١٤
٤٢٠
والسناءُ - بالمد - : الرفعة، قال :
٣٨٤٣ - (وسِنٍّ كسُنَّيْقٍ سَنَاءً وسُنَّما)
وقرأ ابن وثاب :" سَنَاءُ بُرَقِهِ " بالمد، وبضم الباء من " بَرْقِهِ " وفتح الراء وروي عنه ضم الراء أيضاً.
فأما قراءة المد فإنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان.
فأما " بُرَقِهِ " فجمع " بُرْقَةٍ "، وهي المقدار من البرق، كـ " غُرْفَة وغُرَف "، و " لُقْمَة ولُقَم ".
وأما ضم الراء فإتباع، كـ " ظُلُمَات " بضم اللام إتباعاً لضم الظاء، وإن كان أصلها السكون.
وقرأ العامة أيضاً " يَذْهَبُ " بفتح الياء والهاء.
وأبو جعفر بضم الياء وكسر الهاء من " أَذْهَبَ ".
وقد خَطَّأ هذه القراءة الأخفش وأبو حاتم، قالا :" لأنَّ الباءَ تُعَاقِبُ الهمزة ".
٤٢١
وليس ردُّهما بصوابٍ، لأنَّها تَتَخرّجُ على ما خُرِّجَ ما قُرِئَ به في المتواتر :" تُنْبِتُ بالدُّهْنِ " من أنَّ الباء مزيدةٌ، أو أنَّ المفعول محذوف والباء بمعنى " مِنْ " تقديره : يَذهب النور من الأبصار، كقوله :
٣٨٤٤ - شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الحَشْرَجِ

فصل المعنى : يكاد ضوء برق السحاب يذهب بالأبصار من شدة ضوئه.


واعلم أنّ البرق الذي صفته كذلك لا بد وأن يكون ناراً عظيمة خالصة، والنار ضد الماء والبرد، فظهوره يقتضي ظهور الضد من الضد، وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم، ثم قال :﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ يصرفهما في اختلافهما، ويعاقبهما : يأتي بالليل ويذهب بالنهار، ويأتي بالنهار ويذهب بالليل قال عليه السلام :" قال الله تعالى : يُؤْذيني ابن آدم، يَسُبُّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أُقَلِّبُ الليلَ والنهارَ " وقيل : المراد ولوج أحدهما في الآخر.
وقيل : المراد تغير أحوالهما في الحر والبرد وغيرهما.
﴿إِنَّ فِي ذالِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾ أي : إن في الذي ذكرت من هذه الأشياء ﴿لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾
٤٢٢
البصائر، أي : دلالة لأهل العقول على قدرة الله وتوحيده.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٤١٤


الصفحة التالية
Icon