قوله تعالى :" فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ " هذا خطاب مع المشركين، أي : كَذَّبَكُمُ المعبودون في قولكم إنهم آلهة وإنهم أضلوكم.
وقيل : خطاب للمؤمنين في الدنيا، أي : فقد كذبوكم أيها المؤمنون الكفار بما تقولون من التوحيد في الدُّنيا، وهو معنى قوله " بِما تَقُولُونَ ".
وهذه الجملة من كلام الله تعالى اتفاقاً، فهي على إضمار القول والالتفات.
قال الزمخشري : هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنةٌ رائعةٌ وخاصة إذا انضمَّ إليها الالتفات وحذف القول، ونحوها قوله :﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ [فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ]﴾ [المائدة : ١٩]، وقول القائل : ٣٨٦٨ - قالوا خُراسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا
ثُمَّ القُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٤٩٣
انتهى.
يريد أنَّ الأصل في الآية الكريمة فقلنا فقد كذبوكم، وفي البيت : فقلنا قد جئنا.
وقرأ أبو حيوة وقنبل في رواية ابن أبي الصلت عنه بالياء من تحت، أي :" فَقَدْ كَذَبَكُم الآلِهَةُ بِمَا يَقُولُونَ (سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ " إلى آخره وقيل : المعنى : فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار بما يقولون) من الافتراء عليكم.
قوله :" فَمَا يَسْتَطِيعُونَ ".
قرأ حفص بتاء الخطاب، والمراد عبَّادها، والمعنى فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم.
وقيل : الصرف : التوبة، وقيل : الحيلة.
٥٠٠
وقرأ الباقون باء الغيبة، والمراد الآلهة التي كانوا يعبدونها من عاقل وغيره، ولذلك غلب العاقل وأتى بواو الضمير، والمعنى : فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب وأن يحتالوا لكم.
قوله :﴿وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ﴾.
قرأ العامة " نُذِقْهُ " بنون العظمة، وقرئ بالياء، وفي الفاعل وجهان : أظهرهما : أنه الله تعالى لدلالة قراءة العامة على ذلك.
والثاني : أنه ضمير الظلم المفهوم من الفعل، وفيه تجوز بإسناد إذاقة العذاب إلى سببها وهو الظلم، والمعنى : ومن يشرك منكم نذقه عذاباً كبيراً.
فصل تمسك المعتزلة بهذه الآية (في القطع بوعيد أهل الكبائر، قالوا : ثبت أن كلمة " مَنْ " في معرض الشرط للعموم، وثبت أن الكافر ظالم لقوله ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان : ١٣]، والفاسق ظالم لقوله :﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات : ١١] فثبت بهذه الآية) أن الفاسق لا يعفى عنه بل يعذب لا محالة.
والجواب : أنا لا نسلم أن كلمة " مَنْ " في معرض الشرط للعموم، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه، سلمنا أنه للعموم لكن قطعاً أم ظاهراً ؟ ودعوى القطع ممنوعة، فإنا نرى في العرف العام والاستعمال المشهور استعمال صيغ العموم مع إرادة الأكثر أو لأن المراد أقوام معينون ويدل عليه قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة : ٦] ثم إن كثيراً من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع أن يقال : قولنا " الَّذِينَ كَفَرُوا " كان يفيد العموم، لكن المراد منه إمَّا الغالب أو المراد منه أقوام مخصصون.
وعلى التقديرين ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة، وذلك لا ينفي تجويز العفو.
٥٠١


الصفحة التالية
Icon