لقاءنا، فوضع الرجال موضع الخوف لغة تهاميّة إذا كان معه جحدٌ، ومنه قوله تعالى :﴿مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ [نوح : ١٣] أي : لا تخافون لله عظمةً قال القاضي : لا وجه لذلك، لأن الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجز حمله على المجاز، والمعلوم من حال عبّاد الأصنام أنهم كانوا لا يخافون العقاب، لتكذيبهم (بالمعاد)، فكذلك لا يرجون الثواب لمثل ذلك، فقوله :﴿لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ محمول على الحقيقة، وهو أنهم لا يرجون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب والجنة، ومعلوم أن من لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب أيضاً، فالخوف تابع (للرجاء).
فصل دلَّ ظاهر الآية على جواز الرؤية، لأن اللقاء جنس تحته أنواع، أحد أنواعه الرؤية، والآخر الاتصال والمماسّة.
وهما باطلان، فدلَّ على جواز الرؤية، لأن الرائي يصل برؤيته إلى حقيقة المرئي فسمي الرؤية لقاء.
وقالت المعتزلة : تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة، لأنه يقال في الدعاء : لقاك الله الخير.
ويقول القائل : لم أَلْقَ الأمير.
وإن رآه من بعد إذا حجب عنه، ويقال في الضرير : لقي الأمير إذا أذن له ولم يحجب، وقد يلقاه في الليلة الظلماء ولا يراه، بل المراد من اللقاء هنا المصير إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في يوم ﴿لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً﴾ [الانفطار : ١٩] لا أنه رؤية البصر.
قال ابن الخطيب وهذا كلام ضعيف، لأنَّ اللفظ الموضوع لمعنى مشترك بين معان كثيرة ينطلق على كل واحد من تلك المعاني، فيصح قوله : لقاك الخير، ويصح قول الأعمى : لقيت الأمير، ويصح قول البصير : لقيته (بمعنى رأيته، وما لقيته) بمعنى ما وصلت إليه، وإذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى :﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ مذكور في معرض الذم لهم، فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلاً، ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني وبين الوصول بالرؤية، وقد بطل الأول فتعيّن الثاني.
٥٠٦
وقولهم : المراد من اللقاء الوصول إلى حكمه.
صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل، فثبت دلالة الآية على صحة الرؤية بل على وجوبها، بل على أنّ إنكار الرؤية ليس إلا من دين (الكفار).
قوله :" لَوْلاَ أُنْزِلَ " : هلاّ أنزل " عَلَيْنَا المَلاَئِكَةُ " فيخبرونا أن محمداً صادق ﴿أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ فيخبرنا بذلك ﴿لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ﴾ (أي : تعظموا في أنفسهم) بهذه المقالة.
قال الكلبي ومقاتل : نزلت الآية في أبي جهل والوليد وأصحابهما المنكرين للنبوة والبعث.
قوله :" عُتُواً " مصدر وقد صحَّ هنا وهو الأكثر وأُعِلَّ في مريم في " عِتِيًّا "، لمناسبة ذكرت هناك، وهي تواخي رؤوس الفواصل.

فصل قال مجاهد :" عُتُوًّا " طغواً.


وقال مقاتل :" عتوًّا " غلوًّا في القول.
والعتو : أشد الكفر وأفحش الظلم، وعتوهم طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به.
وقوله :" فِي أَنْفُسِهِمْ "، لأنهم أضمروا الاستكبار في قلوبهم واعتقدوه، كما قال :﴿إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم (بِبَالِغِيهِ)﴾ [غافر : ٥٦].
وعتوا : تجاوزوا الحد في الظلم.
فصل وهذا جواب عن شبهتهم وبيانه من وجوه : أحدها : أن القرآن لما ظهر كونه معجزاً فقد تمت نبوة محمد - عليه السلام - فبعد ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض التعنت والاستكبار.
٥٠٧


الصفحة التالية
Icon