فصل لما وصفوه بالإضلال في قولهم :﴿إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا﴾ بين تعالى أنه سيظهر لهم من المضل ومن الضال عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه، فقال :﴿وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾، وهذا وعيد شديد على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٥٣٥
قوله تعالى :﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَهُ هَوَاهُ﴾ الآية.
" أَرَأَيْتَ " كلمة تصلح للإعلان والسؤال، وههنا تعجب ممن هذا وصفه ونعته.
وقوله :﴿مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَهُ هَوَاهُ﴾ مفعولا الاتخاذ من غير تقديم ولا تأخير، لاستوائهما في التعريف.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم أخر " هَوَاهُ " والأصل قولك : اتخذ الهوى إلهاً.
قلت : ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية (به) كما تقول : علمت منطلقاً زيداً لفضل عنايتك بالمنطلق.
قال أبو حيان : وادعاء القلب، يعني : أن التقديم ليس بجيد، لأنه من ضرائر الأشعار.
قال شهاب الدين : قد تقدم فيه ثلاثة مذاهب، على أن هذا ليس من
٥٣٩
القلب المذكور في شيء إنما هو تقديم وتأخير فقط.
وقرأ ابنُ هُرمز " إِلاَهَةً هَوَاهُ " على وزن فعالة، والإِلهة بمعنى المَأْلُوه، والهاء للمبالغة كـ " عَلاَّمَة وَنسَّابة).
و " إِلاَهَةً " مفعول ثاني قدم لكونه نكرة ولذلك صرف.
وقيل : إلاهة هي الشمس، ورد هذا بأنه كان ينبغي أن يمتنع من الصرف للعلمية والتأنيث.
وأجيب بأنها يدخل عليها (أل) كثيراً فلما نزعت منها صارت نكرة جارية مجرى الأوصاف.
ويقال : أُلاهة بضم الهمزة للشمس وقرأ بعض المَدَنيِّين " آلِهَةً هَوَاهُ " جمعُ إله، وهو أيضاً مفعول مقدم وجمع باعتبار الأنواع، فقد كان الرجل يعبد آلهة شتى.
ومفعول " أَرَأَيْتَ " الأول " مَنْ " والثاني الجملة الاستفهامية.

فصل قال ابن عباس : الهوى إله يعبد.


وقال سعيد بن جبير : كان الرجل من المشركين يعبد الحجر، فإذا رأى حجراً أحسن منه طرح الأول وأخذ الآخر وعبده.
﴿أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً﴾ أي : حافظاً تحفظه من اتباع هواه، أي لست كذلك، ونظيره :﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ﴾ [الغاشية : ٢٢] ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ [ق : ٤٥] ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة : ٢٥٦]، قال الكلبي : نسختها آية القتال.
﴿أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون﴾ يسمعون ما تقول سماع طالب الإفهام، أو يعقلون ما يعاينون من الحجج والأعلام.
و " أم " هنا منقطعة بعنى : بل.
﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ﴾ في عدم انتفاعهم بالكلام، وعدم تدبرهم، وتفكرهم، بل هم أضل سبيلاً لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها، وتَنْقَاد لأربابها التي تتعهدها، (وتطلب ما ينفعها، وتجتنب ما يضرها، وقلوب الأنعام خالية عن العلم، وعن الاعتقاد الفاسد، وهؤلاء قلوبهم خالية عن العلم ومليئة من الاعتقاد والباطل، وعدم علم الأنعام لا يضر بأحد، وجهل هؤلاء منشأ للضرر العظيم، لأنهم يصدون الناس عن سبيل الله، والبهائم لا تستحق عقاباً على عدم العلم، وهؤلاء يستحقون على عدم العلم أعظم العقاب)، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم، ولأن الأنعام تسجد وتسبح الله، وهؤلاء الكفار لا
٥٤٠
يفعلون فإن قيل : لم قال :﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾ فحكم بذلك على الأكثر دون الكل ؟ فالجواب : لأنه كان فيهم من يعرف الله ويعقل الحق إلا أنه ترك الإسلام لحبّ الرياسة لا للجهل.
فإن قيل : إنه تعالى لما نفى عنهم السمع والعقل فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين، وكيف بعث الرسول إليهم، فإن من شرط التكليف العقل ؟ فالجواب : ليس المراد أنهم لا يعقلون بل المراد أنهم لم ينتفعوا بذلك العقل، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم : إنما أنت أعمى وأصم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٥٣٩
قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ الآية.
لما بين جهل المعرضين عن دلائل التوحيد، وبين فساد طريقهم ذكر أنواعاً من الدلائل الدالة على وجود الصانع، فأولها الاستدلال بحال الظل في زيادته ونقصانه، وتغير أحواله قوله :" ألم تر " فيه وجهان : أحدهما : أنه من رؤية العين.
والثاني : أنه من رؤية القلب، يعني : العلم، فإن حملناه على رؤية العين، فالمعنى : أَلَمْ تَرَ إلى الظل كيف مده ربُّك، وإن حملناه على العلم وهو اختيار الزجاج، فالمعنى : ألم تعلم، وهذا أولى، لأن الظل إذا جعلناه من المبصرات فتأثير قدرة الله في تمديده غير مرئي بالاتفاق ولكنه معلوم من حيث أن كل مبصر فله مؤثر، فحمل هذا اللفظ على رؤية القلب أولى من هذا الوجه.
وهذا الخطاب وإن كان ظاهره للرسول فهو عام في المعنى، لأن المقصود بيان نعم الله تعالى بالظل، وجميع المكلفين مشتركون في تنبيههم لهذه النعمة و " كَيْفَ " منصوبة بـ " مَدَّ "، وهي
٥٤١


الصفحة التالية
Icon