الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله، لأأنه وكزه تأديباً، ومثل ذلك ربما حَسُن.
وقيل : من المخطئين، فبين أنه فعله على وجه لا تجوز المؤاخذة به، فيعد كافراً لنعمه.
قوله :﴿فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾.
العامة على تشديد ميم " لَمَّا " وهي " لَمَّا " التي هي حرف وجوب عند سيبويه.
أو بمعنى " حِينَ " عند الفارسي.
روي عن حمزة بكسر اللام وتخفيف الميم، أي : لِتَخَوُّفِي مِنْكُمْ، و " ما " مصدرية.
وهذه القراءة تشبه قراءته في " آل عمران " :﴿لَمَآ آتَيْتُكُم﴾ [آل عمران : ٨١].
وقد تقدمت مستوفاة.
(قال الزمخشري : إنما جمع الضمير في " مِنْكُمْ " و " خِفْتُكُمْ " مع إفراده في " تَمُنُّهَا " و " عَبَّدْتَ "، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله لقوله :﴿إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾ [القصص : ٢٠]، وأما الامتنان والتعبد فمنه وحده).
فصل والمعنى : إني فعلت ذلك الفعل وأنا ذاهل عن كونه مهلكاً، وكان مني في حكم السهو، فلم أستحق التخويف الذي يوجب الفرار، ومع ذلك فررت منكم لما خفتكم عن قولكم :﴿إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾ [القصص : ٢٠] فبين بذلك ألاّ نعمة له عليه في الفلة، بل بأن يكون مسيئاً فيه أقرب.
فصل وقد ورد لفظ " الفرار " على أربعة : الأول : بمعنى الهرب، كهذه الآية، ومثله ﴿لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الْمَوْتِ﴾ [الأحزاب : ١٦].
١٥
الثاني : بمعنى الكراهية، قال تعالى :﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ﴾ [الجمعة : ٨] أي : تكرهونه.
الثالث : بمعنى اشتغال المرء بنفسه، قال تعالى :﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾ [عبس : ٣٤ - ٣٥] أي : لا يلتفت إليهم، لاشتغاله بنفسه.
الرابع : بمعنى التباعد، قال تعالى :﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِى إِلاَّ فِرَاراً﴾ [نوح : ٦] أي : تباعداً.
ثم بين نعم الله عليه بعد الفرار، فكأنه قال : أسأتم وأحسن الله إليَّ بأن وهب لي حكماً.
قرأ عيسى :" حُكُماً " بضم الكاف إتباعاً.
والمراد بالحكم : العلم والفهم، قاله مقاتل : وقيل : النبوة.
والأول أقرب، لأن المعطوف غير المعطوف عليه، والنبوة مفهومة من قوله :﴿وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾.
قوله :" وَتِلْكَ نِعْمَةٌ " فيه وجهان : أحدهما : أنه خبر على سبيل التهكم، أي : إنْ كَانَ ثمَّ نعمة فليست إلاَّ أنك جعلت قومي عبيداً لك.
وقيل :" ثَمَّ " حرف استفهام محذوف لفهم المعنى، أي :" أَوَ تِلْكَ "، وهذا مذهب الخفش، وجعل من ذلك :
٣٨٩٨ - أَفْرَحُ انْ أُرْزَأَ الكِرَامَ
وقد تقدم هذا مشبعاً في النساء عند قوله :﴿وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ [النساء : ٧٩] وفي غيره.
١٦
قوله :" أَنْ عَبَّدْتَ " فيه أوجه : أحدها : أنه في محل رفع عطف بيان لـ " تِلْكَ " كقوله :﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ﴾ [الحجر : ٦٦].
الثاني : أنها في محل نصب مفعولاً من أجله.
الثالث : أنها بدل من " نِعْمَة ".
الرابع : أنها بدل من هاء " تَمُنُّهَا ".
الخامس : أنها مجرورة بباء مقدرة، أي : بأَنْ عَبَّدْتَ.
السادس : أنها خبر مبتدأ مضمر، أي : هي أن عَبَّدْتَ.
السابع : أنها منصوبة بإضمار " أعني " والجملة من " تَمُنُّهَا " صفة لـ " نِعْمَة " و " تَمُنُّ " يتعدى بالباء، فقيل : هي محذوفة، أي : تَمُنُّ بها.
وقيل : ضُمِّنَ " تَمُنُّ " معنى " تَذْكُرُ ".
ويقال : عبّدت الرجل وأعبدته وتعبدته واستعبدته :[إذا اتخذته عبداً].
فصل اختلفوا في تأويل " أَنْ عَبَّدْتَ " : فحملها بعضهم على الإقرار، وبعضهم على الإنكار.
وعلى كلا القولين فهو جواب لقوله :﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا﴾ [الشعراء : ١٨].
فمن قال : هو إقرار، قال : عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه ولم يقتله كما قتل سائر غلمان بني إسرائيل، ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل، أي : بلى و ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وتركتني فلم تستعبدني.
ومن قال : هو إنكار قال : قوله :" وَتِلْكَ نِعْمَةٌ " هو على طريق الاستفهام، كما تقدم في إعرابها، يعني : أَوَ تِلْكَ نعمة، فحذفت ألف الاستفهام، كقوله :﴿فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء : ٣٤] وقال الشاعر : ٣٨٩٩ - تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ
وَمَاذَا يَضِيرُكَ لَوْ تَنْتَظِرْ
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ١٣
أي : أتروح من الحي، وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة :
١٧
٣٩٠٠ - لَمْ أَنْسَ يَوْمَ الرَّحِيلِ وَقْفَتِهَا
وَطَرْفُهَا فِي دُمُوعِهَا غَرِقُ
وَقَوْلَهَا والرِّكابُ واقِفَةٌ
تَتْرُكُنِي هكَذَا وَتَنْطَلِقُ