[المنافقون : ٤] وإنما فعل به ذلك تشبيهاً بالمصادر نحو :" الوَلُوعُ، والقَبُول " وقد يقال : أعداءٌ، وعَدُوَّةٌ، وقوله :" عَدُوٌّ لي " على أصله من غير تقدير مضاف ولا قلب، لأن العدو والصديق يجيئان في معنى الواحدة والكثرة، قال الشاعر : ٣٩١٠ - وَقَوْمٌ عَلَى ذَوِي مِئْرَةٍ
أَرَاهُمْ عَدُوّاً وَكَانُوا صَدِيقَا
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٣٨
وتقدم الكلام في نظيره عند قوله :" إنَّا رَسُولُ ".
وقيل : المعنى :﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى ﴾ لو عبدتهم يوم القيامة، كقوله :﴿سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً﴾ [مريم : ٨٢].
(وقيل : الأصنام لا تُعادى لأنها جماد، والتقدير : فإن عبادهم عدو لي).
وقيل : بل في الكلام قلب تقديره : فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لهم وهذان مرجوحان لاستقامة الكلام بدونهما، فإن قيل : لم قال :﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى ﴾ ولم يقل فإنها عدو لكم ؟ فالجواب : أنه - عليه السلام - صور المسألة في نفسه، بمعنى أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها، وأراهم أنها نصيحة نصح بها نفسه، فإذا تفكروا وقالوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون أدعى إلى القبول.
قوله :﴿إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه منقطع، أي : لكن رب العالمين ليس بعدوٍّ لي.
وقال الجرجاني : فيه تقديم وتأخير، أي : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا ربّ
٤١
العالمين فإنهم عدو لي، و " إلاَّ " بمعنى " دُونَ، وسِوَى ".
والثاني : أنه متصل، وهو قول الزجاج، لأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، فقال إبراهيم : كل من تبعدون أعداء لي إلا رب العالمين.
وقال الحسن بن الفضل : معناه : إلا من عبد رب العالمين.
وقيل : معناه : فإنهم غير معبود لي إلا رب العالمين.
ثم وصف معبوده، وهو قوله :" الذَّي خَلَقَنِي " يجوز فيه أوجه : النصب على النعت لـ " رَبّ العَالَمِينَ "، أو البدل، أو عطف البيان، أو على إضمار " أعني ".
والرفع على خبر مبتدأ مضمر، أي : هو الذي خلقني، أو على الابتداء.
و " فَهُوَ يَهْدِين " جملة اسمية في محل رفع خبراً له.
قال الحوفي : ودخلت الفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط.
وهذا مردود.
لأن الموصول معيَّنٌ ليس عاماً، وأن الصلة لا يمكن فيها التجدد، فلم يشبه الشرط وتابع أبو البقاء الحوفيَّ، ولكنه لم يتعرض للفاء، فإن عنى ما عناه الحوفي فقد تقدم ما فيه، وإن لم يفعله فيكون تابعاً للأخفش في تجويزه زياة الفاء في الخبر مطلقا نحو :" زيدٌ فاضربه " وقد تقدم تجويزه.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٣٨
واعلم أن إبراهيم - عليه السلام - لما استثنى رب العالمين وصفه بما يستحق العبادة لأله بأوصاف : أحدهما : قوله ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾، وذلك لأن الله تعالى أثنى عليه
٤٢
نفسه بهذين الأمرين في قوله :﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [الأعلى : ٢ - ٣].
وقال :" خَلَقَنِي " بلفظ الماضي، لأن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا، بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم.
وقال :" فَهُوَ يَهْدِيْن " بلفظ المستقبل، لأن الهداية مما تتكرر كل حين وأوان، سواء كانت تلك الهداية من المنافع الدنياوية بتمييز الناف عن الضار، أو من المنافق الدينية بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر.
قوله :﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾.
يجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوف وكذلك ما بعده، ويجوز أن تكون أوصافاً لـ " الَّذِي خَلَقَنِي " ودخول الواو جائز، وقد تقدم تحقيقه في أول البقرة كقوله : ٣٩١١ - إلَى المَلِك القَرْمِ وَابنِ الهَمَامِ
وَلَيْثَ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمْ
وأثبت ابن إسحاق - وتروى عن عاصم أيضاً - ياء المتكلم في :" يَسْقِينِ، ويَشْفِينِ، ويُحْيِينِ ".

فصل المعنى : يرزقني ويغدوني بالطعام والشراب، ونبه بذكر الطعام والشراب على ما عداهما.


قوله :﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ أضاف المرض إلى نفسه، وإن كان المَرض والشفاء كله من الله استعمالاً لحُسن الأدب كما قال الخضر :﴿فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا﴾
٤٣


الصفحة التالية
Icon