وقرأ اليمانيُّ :" وأَتْبَاعِكَ " بالجر عطفاً على الكاف في " ذَلِكَ " وهو ضعيف أو ممنوع عند البصريين، وعلى هذا فيرتفع " الأَرْذَلُونَ " على خبر ابتداء مضمر، أي : هم الأرذلون وقد تقدم مادّةُ " الأَرْذَلِ " في هود.
فصل الرذالة : الخِسَّة والذِّلة، وإنما استرذلوهم لاتّضاع نسبهم وقلة نصيبهم في الدنيا.
وقيل : كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحِجَامَة.
وهذه الشبهة في غاية الركاكة، لأن نوحاً - عليه السلام - بعث إلى الخلق كافة، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب وخستها، فأجابهم نوح عنه بالجواب الحق، وهو قوله :﴿وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي : ما أعلم أعمالهم وصنائعهم، وليس عليّ من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء، إنما كُلِّفت أن أدعوهم إلى الله ولي منهم ظاهر أمرهم.
قوله :" وَمَا عِلْمِي " يجوز في " مَا " وجهان : أظهرهما : أنها استفهامية في محل رفع بالابتداء، و " عِلْمِي " خبرها، والباء متعلقة به.
والثاني : أنها نافية، والباء متعلقة بـ " علمي " أيضاً، قاله الحوفي.
ويحتاج إلى إضمار خبر ليصير الكلام به (جملة).
٥٧
قوله :﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي﴾ " إِنْ " نافية، أي : ما حسابهم إلا على ربي، ومعناه : لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى.
قوله :" لَوْ تَشْعُرُوْن " جوابها محذوف، ومفعول " تشعرون " أيضاً، والمعنى " لَوْ تَشْعُرُونَ " تعلمون ذلك ما عبتموهم بصنائعهم.
قال الزجاج : الصناعات لا تَضُرُّ في الدِّيَانَاتِ.
وقيل : معناه : إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم، ويوفقهم ويخذلكم.
وقرأ الأعرج وأبو زُرعة :" لَوْ يَشْعُرُونَ " بياء الغيبة، هو التفات، ولا يحسُنُ عَوْدُه على المؤمنين.
قوله :﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم فبيّن أن الدين يمنعه عن طردهم، وقد آمنوا به، وبيَّن أن الغرض من تحمل الرسالة كونه نذيراً : فقال :﴿إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي : إني أُخَوِّف من كذبني ولم يقبل مني، فمن قبل فهو القريب، ومن رد فهو البعيد، فلما أجابهم بهذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد فقالوا :﴿لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾.
قال مقاتل والكلبي : من المقتولين بالحجارة.
وقال الضحاك : من الشمئومين.
فعند ذلك حصل اليأس لنوح من فلاحهم، وقال :﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾.
وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه بأنه عالم الغيب والشهادة، ولكنه أراد : لا أدعوك عليهم لما آذوني، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوك في وحيك ورسالتك :﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً﴾ أي : فاحكم بيني وبينهم.
و " فَتْحاً " يجوز أن يكون مفعولاً به بمعنى المفتوح، وان يكون مصدراً مؤكداً.
والفَتَاحَةُ : الحكومة.
والفَتَّاح : الحكم، لأنه يفتح المستغلق.
والمراد إنزال العقوبة عليهم لقوله عقيبه :" وَنَجِّنِي "، ولولا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى.
٥٨
قوله :" وَنَجِّنِي " المُنجَّى " منه محذوف لفهم المعنى، أي : مما يَحِلُّ بقومي، و " مِنَ المُؤْمِنِينَ " بيان لقوله :" مَنْ مَعِيَ ".
قوله :﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾.
قال الزمخشري : الفُلك : السفينة، واحدها : فُلْك، قال الله تعالى :﴿وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ﴾ [النحل : ١٤] فالواحد بوزن (قُفْل) والجمع بوزن (أًسْد) وَالمَشْحُون :" المَمْلُوء المُوقَر "، يقال : شَحَنَها عليهم خَيْلاً ورجَالاً أي ملأها والشَّحْنَاء : العداغوة لأنهما تملأ الصدور إحناً.
والفُلْك هنا مفرد بدليل وصفه بالمرفد، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة.
فصل دلَّت الآية على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة، وأن الفك امتلأ بهم وبما صحبهم من الحيوانات، ثم إنه تعالى بعد أن نجاهم أغرق الباقين فقال :﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٥
قوله تعالى :﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ﴾ الآية.
الكلام في فاتحة هذه القصة كالكلام في فاتحة قصة نوح.
وقوله :" تَعْبَثُون " جملة حالية من فاعل " تبنون ".
والرِّيعْ - بكسر الراء وفتحها - : جمع " رِيْعَة " وهو في اللغة : المكان المرتفع، قال ذو الرمّة.
٥٩
٣٩١٦ - طِرَاقُ الخَوَافِي مُشْرِقٌ فَوْقَ رِيْعَةٍ
نَدَى لَيْلِهِ فِي ريْشِهِ يَتَرَقْرَقُ
وقال أبو عبيدة : وهو الطريق، وأنشد للمسيَّب بن علس يصف ظعناً : ٣٩١٧ - فِي الآلِ يَخْفِضُهَا وَيَرفَعُهَا
رِيْعٌ يَلُوْحُ كَأَنَّهُ سَحْلُ