الآية لكان السُّجُودُ واجباً، ولكن دلَّت السنةُ على استحبابه دون وجوبه، على أَنَّا نقول : هذا مبنيٌّ على نظر آخر، وهو أَنَّ هذا الأمر من كلام الله تعالى أو من كلام الهدهد محكيّاً عنه، فإن كان من كلام الله تعالى فيقال : يقتضي الوجوب إلاَّ أَنْ يجيء دليل يصرفه عن ظاهره، وإنْ كان من كلام الهدهد - وهو الظاهر - ففي انتهاضة دليلاً نظر، وهذا الذي ذكروه ليس بشيء، لأنَّ المراد بالسجود ههنا عبادة الله لا عبادة الشمس، وعبادة الله واجبة وليس المراد من الآية سجود التلاوة، وأين كانت التلاوة في زمن سليمان عليه السلام ولم يكن ثم قرآن.
وقرأ الأعمش " هَلاَّ " و " هَلاَ " بقلب الهمزة هاء مع تشديد " لاَ " وتخفيفها، وكذا هي في مصحف عبد الله، (وقرأ عبد الله) " تَسْجُدُونَ " بتاء الخطاب ونون الرفع، وقرىء كذلك بالياء من تحت، فَمَنْ أَثْبَتَ نون الرفع فـ " أَلاَّ " بالتشديد أو التخفيف للتحضيض، وقد تكون المخففة للعرض أيضاً نحو أَلاَ تنزلُ عندنا فتحدَّثُ، وفي حرف عبد الله أيضاً ﴿أَلاَ هَلْ تَسْجُدُونَ﴾ بالخطاب.
قوله :﴿الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ﴾ يجوز أن يكون مجرور المحل نعتاً " للَّه " أو بدلاً منه أو بياناً، و " منصوبة على المدح، ومرفوعة على خبر ابتداءٍ مضمر.
و " الخَبْءَ " مصدر خَبَأْتُ الشيء أَخْبَؤُهُ خَبْئاً أي : سَتَرَْتُهُ، ثم أطلِقَ على الشيء المَخْبُوءِ وَنَحْوُهُ ﴿هَـذَا خَلْقُ اللَّهِ﴾ [لقمان : ١١] قال المفسرون : الخَبْء في السَّمواتِ المطر، وفي الأرض النبات، والخَابِيَةُ من هذا إلاَّ أَنَّهُم التزموا فيها ترك الهمزة كالبَريَّة والذّريّة عند بعضهم.
وقيل : الخبء الغيب أي : يعلم
١٤٧
غيب السموات والأرض، وقرأ أبيّ وعيسى " الخَبَ " بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة فيصير نحو : رأيت لَبَ، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار " الخَبَا " بألفٍ صريحةٍ، وجهها أنه أبدل الهمزة ألفاً فلزم تحريك الباء، وذلك على لغة مَنْ يقف من العرب بإبدال الهمزة حرفاً يجانس حركتها، فيقول : هذا الخَبُو، ورأيت الخبا، ومررت بالخبي، ثم أُجْرِي الوَصْلُ مَجْرَى الوقْفِ، وقيل : إنه لمَّا نَقَلَ حركة الهمزة إلى الساكن قبلها لم يحذفها بل تركها، فَسَكَنَتْ بعد فتحةٍ فَدُبِرَتْ بحركة ما قبلها وهي لغة ثابتة، يقولون : المرأة والكماة بألف مكان الهمزة بهذه الطريقة، وقد طعن أبو حاتم على هذه القراءة وقال : لا يجوز في العربية، لأَنَّه إن حذف الهمزة أَلْقَى حركتها على الباء، فقال الخَبَ، وإن حوَّلَها قال الخَبْي، بسكون الباء وياء بعدها.
قال المبرد : كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو، لم يَلْحَقْ بهم إلاَّ أنه إذا خرج من بلدهم لم يلق أَعْلَم منه.
قوله :" في السَّماوَاتِ " فيه وجهان : أحدهما : أنه متعلق بـ " الخَبْءَ "، أي ؛ المَخْبُوءُ في السموات.
والثاني : أنه متعلق بـ " يُخْرِجُ " على أنَّ معنى (في) بمعنى (مِنْ)، أي : يخرجه من السموات، و " مِنْ " و " فِي " يتعاقبان، يقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم، أي منكم - قاله الفراء -، وقرأ عبد الله :﴿يُخْرِجُ الخَبْءَ مِنَ السَّماواتِ﴾.
قوله :" مَا تُخْفُونَ " قرأ الكسائي وحفص بالتاء من فوق فيهما، والباقون بالياء
١٤٨
من تحت، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي، لأن ما قبله أَمرهُمْ بالسجود وخطابهم به والغيبة على قراءة الباقين غير حفص ظاهرة أيضاً، لتقدم الضمائر الغائبة في قوله :" لَهُمْ "، و " أَعْمَالَهُمْ " و " صَدَّهُمْ " و " فَهُمْ " وأما قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أَتَمَّ قصة أهل سبأ، ويجوز أن يكون التفاتاً على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر، فخاطبه ملتفتاً إليه.
وقال ابن عطية : القراءة بيان الغيبة تُعْطِي أَنَّ الية من كلام الهدهد، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله لأُمّة محمد - ﷺ - وقد تقدم أن الظاهر أنه من كلام الهدهد مطلقاً.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ١٣٥


الصفحة التالية
Icon