في اثترد، لأن تاء الافتعال تبدل دالاً بعد أحرف منها الدال، نحو : ادَّانَ في افْتَعَلَ من الدين، فالإبدال لأجل كون الدال فاء لا للإدغام، فليس مثل اثَّرَدَ في شيء، فتأمله فإنه حسن، فلما أدغمت الدال في الدال أدخلت همزة الاستفهام، فسقطت همزة الوصل، فصار اللفظ، أَدْرَكَ يهمزة قطع مفتوحة، ثم نقلت حركة هذه الهمزة إلى لام " بَلْ " فصار اللفظ :" بَلْ دَّرَكَ ".
وقرأ أبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج وابن عباس وتروى عن عاصم كذلك إلا أنه بكسر لام " بَلْ " على أصل التقاء الساكنين، فإنهم لم يأتوا بهمزة استفهام.
وقرأ عبد الله بن عباس والحسن وابن محيصن " آدَّرَكَ " بهمزة ثم ألف بعدها، وأصلها همزتان أبدلت ثانيهما ألفاً تخفيفاً، وأنكرها أبو عمرو.
وقد تقدم أول البقرة أنه قرىء " أَأَنْذَرْتَهُمْ " بألف صريحة - فلهذه بها أسوة.
وقال أبو حاتم : لا يجوز الاستفهام بعد " بَلْ "، (لأن " بَلْ " ) إيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى :" لَمْ يَكُنْ " كقوله تعالى :﴿أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ﴾ [الزخرف : ١٩] أي : لم يشهدوا، فلا يصح وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار.
قال شهاب الدين : وفي منع هذا نظر، لأن " بَلْ " لإضراب الانتقال، فقد أضرب عن الكلام الأول، وأخذ في استفهام ثانٍ، وكيف ينكر هذا والنحويون يقدرون " أَمْ " المنقطعة ببل والهمزة، وعجبت من الشيخ - يعني أبا حيان - كيف قال هنا : وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد " بَلْ "، وشبهه بقول القائل : أَخُبْزاً أكَلْتَ بَلْ أَمَاءً شَرِبْتَ ؟ على ترك الكلام الأول، والأخذ في الثاني انتهى.
فتخصيصه ببعض المتأخرين يؤذن بأن المتقدّمين وبعض المتأخرين يمنعونه، وليس كذلك لما حكيت عنهم في " أم " بأن المتقدّمين وبعض المتأخرين يمنعونه، وليس كذلك لما حكيت عنهم في " أم " المنقطعة.
وقرأ ابن مسعود :" أَأَدْرَكَ " بتحقيق الهمزتين، وقرأ ورش في رواية :" بَل ادْرَكَ " بالنقل، وقرأ ابن عباس أيضاً :" بَلَى أَدْرَكَ " بحرف الإيجاب أخت
١٩٣
نعم، و " بَلَى آأدْرَكَ " بألف بين همزتين، وقرأ أبي ومجاهد " أن " بدل ( " بَلْ " ) وهي مخالفة للسواد.
قوله :" فِي الآخِرَةِ " فيه وجهان : أحدهما : أن " فِي " على بابها و " أَدْرَكَ " وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معنى، لأنه كائن قطعاً، كقوله :﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ [النحل : ١]، وعلى هذا فـ " فِي " متعلق بـ " أدْرَكَ ".
والثاني : أنّ " فِي " بمعنى الباء، أي : بالآخرة، وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم، كقولك : على يزيد كذا.
وأمّا قراءة من قرأ " بَلَى "، فقال الزمخشري : لمّا جاء ببلى بعد قوله :" وَمَا يَشْعُرُونَ " كان معناه : بلى يشعرون، ثم فسر الشعور بقوله :﴿ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ﴾ على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم، ثم قال : وأمّا قراءة :" بَلَى أأَدْرَكَ " على الاستفهام فمعناه : بَلَى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصّل لهم شعور بوقت كونها، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن، ثم قال : فإن قلت ما معنى هذه الإضرابات الثلاثة ؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنّهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية انتهى.
فإن قيل :(عَمِيَ) يتعدى بـ (عَنْ) تقول : عَمِي فلان عن كذا، فلم عدي بـ (مِنْ) قوله " مِنْهَا عَمُونَ " ؟ فالجواب : أنّه جعل الآخرة مبدأ عَمَاهُم ومنشأه.
فصل المعنى على قراءة ابن كثير :" أَدْرَكَ " أي بلغ ولحق، كما تقول : أدركه علمي، إذَا لحقه وبلغه يريد : ما جهلوا في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة.
قال مجاهد : يدريك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها، حين لا ينفعهم علمهم.
١٩٤
وقال مقاتل : بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكّوا وعمُوا عنه في الدنيا.
كقوله ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا﴾، أي هم اليوم في شك من الساعة.
وعلى قراءة " ادَّارَكَ "، تتابع علمهم في الآخرة أنها كائنة ﴿هُمْ فِي شَكٍّ﴾ في وقتهم.
وقيل استفهام معناه : هل تدارك وتتابع بذلك في الآخرة يعني لم يتتابع، وضلّ وغاب علمهم به، فلم يبلغوه ولم يُدركوه، لأنّ في الاستفهام ضرباً من الجحد.
وقال علي بن عيسى : بل ههنا لو أدركوا في الدنيا ما أدركوا في الآخرة لم يشكُّوا بل هُم مِنْهَا عَمُونَ جمع عمٍ، وهو الأعمى القلب.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ١٨٩


الصفحة التالية
Icon