و " تَمْشِي " حال، و " اسْتِحْيَاءٍ " حال أخرى، إما من " جَاءَتْ " وإما من " تَمْشِي ".
فصل قال عمر بن الخطاب : ليست بسلفع من النساء خرَّاجة ولاَّجة، ولكن جاءت مستترة وضعت كم درعها على وجهها استحياء.
﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ صرحت بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة، وهذا من تمام حيائها وصيانتها، وقيل : ماشية على بُعْد، مائلة عن الرجال.
وقال عبد العزيز بن أبي حازم : على إجلال له، ومنهم من يقف على قوله " تَمْشِي "، ثم يبتدىء ﴿عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ﴾ أي : إنها على استحياء قالت هذا القول، لأن الكريم إذا دعا غيره إلى الضيافة يستحي لا سيما المرأة.
قال ابن إسحاق : اسم الكبرى صَفورا والصغرى لبنا، وقيل ليا، وقال غيره : صَفُورا وصَفِيرا.
وقال الضحاك : صافُورا، قال
٢٣٩
الأكثرون : التي جاءت إلى موسى الكبرى.
وقال الكلبي : هي الصغرى.
قال ابن الخطيب : وفي الآية إشكالات.
أحدها : كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة، (وَأَنْ يَمْشِي مَعَهَا) وهي أجنبية، فإذن ذلك يورث التهمة العظيمة ؟ وقال ﷺ :" اتَّقُوا مَوَاضِع التُّهَم ".
وثانيها : أنه سقى أغنامها تقرباً إلى الله تعالى، فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه، وذلك غير جائز في الشريعة ؟.
وثالثها : أنه عرف فقرَهُنَّ، وفَقْرَ أبيهنّ، وأنه عليه السلام كان في نهاية القوة بحيث يمكنه الكسب بأقل سعي، فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من الشيخ الفقير والمرأة الفقيرة ؟ ورابعها : كيف يليق بالنبي شُعَيب عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شابٍّ قبل العلم بكون الرجل عفيفاً أو فاسقاً ؟ والجواب عن الأول : أما العمل بقول امرأة فإن الخبر يعمل فيه بقول الواحد حراً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى، وهي ما كانت إلاَّ مخبرة عن أبيها.
وأما المشي مع المرأة فلا بأس به مع الاحتياط والتورع.
وعن الثاني : أن المرأة لما قالت ذلك، فموسى عليه السلام ما ذهب إليهم طالباً للأجر، بل للتبرك بذلك الشيخ، لِما رُوِي أنه لما دخل على شعيب إذا هو بالعَشاء تهيَّأ، فقال : اجلس يا شاب فتعش، فقال موسى : أعوذُ بالله، فقال شُعَيْب : ولم ذلك ؟ ألست بجائع ؟ فقال : بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما، وأنا من أهل بيت لا نطلبُ على عملٍ من أعمال الآخرة عوضاً من الدنيا، وفي رواية : لا نبيع ديننا بالدُّنيا، ولا نأخذ بالمعروف ثمناً.
فقال شُعيب : لا والله يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف، ونطعم الطعام، فجلس موسى، فأكل.
وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ به إلى حيث ما كان يطيق تحمله، فقبل ذلك اضطراراً، وهو الجواب عن الثالث، فإن الضرورات تبيح المحظورات.
وعن الرابع : لعله عليه السلام كان قد علم بالوحي طهارتها وبراءتها، فكان يعتمد عليها.
٢٤٠
فصل قال عمر بن الخطاب : فقام يمشي والجارية أمامه، فعبثت الريح، فوصفت ردفها، فكره موسى أن يرى ذلك منها، فقال موسى عليه السلام : إني من عنصر إبراهيم، فكوني خَلْفي حتى لا ترفع الريح ثيابك، فأرى ما لا يَحِل، وفي رواية : كوني خلفي ودليني على الطريق برمي الحَصَى، لأن صوت المرأة عورة.
فإن قيل : لِمَ خشي موسى - عليه السلام - أن يكون ذلك أجرة له عن عمله، ولم يكره مع الخضر ذلك حين قال :﴿لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ [الكهف : ٧٧] ؟ فالجواب : أن أخذ الأجرة على الصدقة لا يجوز، وأما الاستئجار ابتداء (فـ) غير مكروه.
قوله :﴿فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾ مصدر كالعلل سمي به المقصوص، قال الضَّحاك : قال له : مَنْ أنت يا عبد الله ؟ قال له : أنا موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب، وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي، وأنهم يطلبوه فيقتلوه، فقال شعيب عليه السلام :﴿لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أي : لا سلطان له بأرضنا، فإن قيل إن المفسرين قالوا : إن فرعون يوم ركب خلف موسى، ركب في ألف ألف وستمائه، والملك الذي هذا شأنه كيف يعقل ألا يكون في ملكه قرية على بُعْد ثمانية أيام من دار مملكته ؟ فالجواب : هذا وإن كان نادراً إلا أنَّه ليس بمحال.
قوله :﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ﴾ اتخذه أجيراً ليرعى أغنامنا، ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ أي : خير من استعملت مَنْ قَوي على العمل، وأداء الأمانة، وإنما جعل ﴿خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ﴾ اسماُ و " القَوِيُّ الأَمِينُ " خبراً مع أن العكس أولى، لأن العناية سبب اللتقديم.
فإن قيل : القوة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضم إليهما العطية والكتابة، فلم أهمَل أمرَ الكتابة ؟ فالجواب أنهما داخِلان في الأمانة.
٢٤١