قوله :﴿مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَاَ﴾، لمَّا بيَّن أن الدار الآخرة ليست إلا للمتقين بيَّن بعد ذلك ما يحصل لهم فقال :﴿مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا﴾، والمعنى : أنهم يزادون على ثوابهم، وقوله :﴿وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ وظاهره أنهم لا يزادون على ما يستحقون.
فقوله :﴿فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ﴾ من إقامة الظاهر مقام المضمر تشنيعاً عليهم، وقوله :﴿إِلاَّ مَا كَانُواْ﴾ أي : إلاَّ مثل ما كانوا، قال الزمخشري : إنما كرر ذكر السيئات، لأن في
٣٠٠
إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً فضل تهجين لحالهم، وزيادة تبغيض للسيئة إلى السامعين، وهذا من فضله العظيم أنه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها، ويجزي بالحسنة بعشر أمثالها.
فإن قيل : قال تعالى :﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء : ٧] كرر ذكر الإحسان واكتفى في ذكر الإساءة بمرة واحدة، (وفي هذه الآية كرر الإساءة واكتفى في ذكر الإحسان بمرة واحدة) فما السبب ؟ والجواب : أن هذا المقام مقام الترغيب في الدار الآخرة فكانت المبالغة في النهي عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة، وأما الآية الأخرى فهي في شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى.
فإن قيل : كيف لا تجزى السيئة إلا بمثلها مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآباد ؟ فالجواب : لأنه كان على عزم أنه لو عاش أبداً لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه.
قوله :﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ﴾ قال أبو علي : فرض عليك أحكامه وفرائضه " لَرَادُّكَ " بعد الموت " إلَى مَعَادٍ " وتنكير المعاد لتعظيمه، كأنه قال : مَعَادٍ وأي معاد، أي ليس لغيرك من البشر مثله، وقيل : المراد به مكة وترداده إليها يوم الفتح، ووجه تنكيره إياها كانت في ذلك اليوم معاداً لها شأن عظيم لاستيلاء رسول الله - ﷺ - عليها، وقهره لأهلها وإظهار عز الإسلام وإذلال حزب الكفرة، والسورة مكية، فكأن الله تعالى وعده وهو بمكة حين أوذي وهو في غلبة من أهلها أنه يهاجر منها، ويعيده إليها ظاهراً ظافراً، وقال مقاتل :" إنَّه ﷺ خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب فلما رجع إلى الطريق نزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك ؟ فقال رسول الله ﷺ :" نَعَمْ " فقال جبريل إنَّ الله يقول :﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ " يعني مكة ظاهراً عليهم قال المحققون : وهذا حد ما يدل على نبوته، لأنه أخبر عن الغيب ووقع ما أخبر به فيكون معجزاً.
٣٠١
قوله :﴿مَن جَآءَ بِالْهُدَى ﴾ منصوب بمضمر، أي : يَعْلَمْ أو " أَعْلَم " إن جعلناها بمعنى عالم وأعملناها إعماله، ووجه تعلقه بما قبله أنَّ الله تعالى لما وعد رسوله - ﷺ - الرد إلى معاد قال : قل للمشركين ﴿رَّبِّى أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى ﴾ يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في المعاد والإعزاز بالإعادة إلى مكة ﴿وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ يعنيهم وما يستحقونه من العذاب في معادهم.
قوله :﴿وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ﴾ أي : يوحى إليك القرآن ﴿إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ قال الفراء هذا استثناء منقطع، أي : لكن رحمة من ربك فأعطاك القرآن وقيل : متصل.
قال الزمخشري : هذا كلام محمول على المعنى، كأنه قيل : وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة.
فيكون استثناء من الأحوال ومن المفعول له، ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ﴾ أي : معيناً لهم على دينهم، قال مقاتل : وذلك حين دعي إلى دين آبائه فذكره الله نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه.
قوله :﴿وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ قرأ العامة بفتح الياء وضم الصاد، من : صدَّه يصُدُّه، وقرىء بضم الياء وكسر الصاد، من : أصده بمعنى صَدَّه، حكاها أبو زيد عن كلب.
قال الشاعر : ٤٠٢٣ - أُنَاسٌ أَصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُم
صُدُودَ السَّوَاقِي عَنْ أُنُوف الحَوَائِمِ
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٣٠٠
٣٠٢


الصفحة التالية
Icon