جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٣٢٦
قوله تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ﴾ قرأ الأخوان وأبو بكر بالخطاب، على خطاب " إبراهيم " لقومه بذلك، والباقون بالغيبة، ردّاً على الأمم المكذبة.
قوله :" كَيْفَ يُبْدِىءُ "، العامة على ضم الياء من " أَبْدَأَ " والزُّبَيْرِيُّ، وعيسى، وأبو
٣٢٩
عمرو بخلاف عنه يَبْدَأُ مضارع بَدَأَ.
وقد صرح بماضيه هنا حيث قال :﴿كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾، وقرأ الزهري :" كيف يبدأ " بألف (صريحة وهو تخفيف على غير قياس، وقياسه بين بين وهو في الشذوذ كقوله : ٤٠٢٧ -....................
فَارْعَيْ فَزَارَةُ لاَ هَنَاكِ المَرْتَعُ
فصل المعنى : أو لم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء نطفة ثم علقه، ثم مضغة.
فإن قيل : متى رأى الإنسان بَدْءَ الخلق، حتى يقال :﴿أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق﴾ ؟ فالجواب : إن المراد بالرؤية العلم الواضح الذي كالرؤية، والعاقل يعلم أن البدء من الله لأن الخلق الأول لا يكون من مخلوق، وإلا لما كان الخلق الأول خلقاً أول، فهو من الله، هذا غن قلنا : إن المراد إتيان نفس الخلق وغطن قلنا : إن المراد بالمبتدأ خلق الآدمي أولاً، وبالإعادة خلقه ثانياً، فنقول : العاقل لا يخفى عليه أن خلق نفسه ليس إلا قادر حكيم يصور الأولاد في الأرحام، والخلقة من نظفة في غاية الإتقان والإحام فذاك الذي خلق أولاً معلوم ظاهر، فأطلق على ذلك العلم لفظ الرؤية، وقال :﴿أو لم يروا﴾ أي أو لم يعلموا علماً ظاهراً واضحاً كيف يبدأ الله الخلق وهو من غذاءٍ هو من ماءٍ وتراب يجمعه فكذلك يجمع أجزاءه من التراب وينفخ فيه روحه بل هو أسهل بالنسب إليكم فإن من نحت حجارة حتى صارت أصناماً ثم كسرها وفرقها فإن وضعه شيئاً بجنب شيء في هذه النوبة أسهل، لأن الحجارة منحوته معلومة.
فإن قيل : علق الرؤية بالكيفية لا بالخلق، ولم يقل : أو لم يروا أن الله خلق او بدأ الخلق والكيفية غير معلومة.
فالجواب : هذا القدر من الكيفية معلوم وهو أنه خلقه ولم يك شيئاً مذكوراً، وأنه خلقه من نطفة من غذاء هو من ماء وتراب، وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة.
٣٣٠
فإن قيل : قال :" ثم يعيده " " إن ذلك على الله يسير " أبرز اسمه مرة أخرى ولم يقل : إن ذلك عَلَيْهِ يسير كما قال :" ثم يعيده " من غير إبراز.
فالجواب : أنه مع إقامة البرهان على أنه يسير أكده بإظهار اسمه، فإنه يوجب المعرفة أيضاً بكَوْنِ ذلك يسيراً فإن الإنسان إذا سمع لفظ " الله " وفهم معناه أنه الحَيُّ القادر بقُدْرَةٍ كاملة لا يعجزه شيء محيط بذرات كل جسم نافذ الإرادة يقطع بجواز الإعادة.
قوله :﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ أي انظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بَدَأ بخلقهم.
فإن قيل : أبرز اسم " الله " في الآية الأولى عند البدء، فقال :﴿كيف يبدىء الله﴾ وأضمره عند الإعادة، وهاهنا أضمره عند البداء، وأبرزه عند الإعادة فقال :﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ﴾.
فالجواب : أنه في الآية الأولى : لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند إليه البداء فقال :﴿كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده﴾، كقول : ضرب زيد عمراً ثم ضرب بكراً، ولا يحتاج إلى إظهار اسم " زيد " اكتفاء الأول.
وفي الثانية : كان ذكر البداء مسنداً إلى الله فاكتفى به، ولم يبرزه، وأما إظهاره عند الإنشاء ثانياً، فقال :﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ﴾ مع أنه كان يكفي أن يقول :" ثم ينشىء " النشأة الآخرة لحكمة بالغة وهي أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسمه، حتى يفهم المسمى به صفات كماله، ونعوت جلاله، فيقطع بجواز الإعادة فقال :" ثم الله " مظهراً لينفع في ذهن الإنسان جلّ اسمه كمالل قدرته، وشمول علمه، ونفوذ إرادته، فيعترف بوقوع بدئه، وجواز إعادته، فإن قيل : فلم لم يقل :" ثُم اللَّهُ يعيده " بعين ما ذكرت من الحكمة فنقول : لوجهين.
أحدهما : أن الله كان مظهراً مبرزاً بقرب منه وهو في قوله :" يبدىء الله الخلق "، ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق، وأما هنا فلم يذكر غير البدء فأظهره.
وثانيهما : أن الدليل هنا تم على جواز الإعادة لأن الدليل منحصر في الآفاق وفي الأنفس، كما قال تعالى :﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ﴾ [فصلت : ٥٣] ففي الآية الأولى أشار إلى الديل الحاصل للإنسان من نفسه، وفي الثانية أشار إلى الدليل
٣٣١