فإن قيل : ما وجه تعلق قوله :﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى ﴾ بما تقدم ؟ فنقول : لما بالغ إبراهيم في الإرشاد، ولم يهتدِ قومه وحصل اليأس الكلي، ورأى القوم الآية الكبرى ولم يؤمنوا وجبت المهاجرة، لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا فبقاؤه فيهم مفسد، لأنه إذا دام على الإرشاد كان اشتغالاً بما لا ينتفع في علمه، فيصير كمن يقول للحجر صدق، وهو عبث والسكوت دليل الرضا فيقال : إنه صار منا، ورضي بأفعالنا، وإذا لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله :﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى ﴾ ولم يقل :" مهاجر إلى حيثُ أمرني ربي} مع أن المهاجرة إلى الرب توهم الجهة.
فالجواب : أن قوله ﴿إِلَى رَبِّى ﴾ ليس في الإخلاص، كقوله :" إلَى رَبِّي " لأن الملك إذا صدر منه أمر برواح الأجناد إلى موضع ثم إن واحداً منهم عاد إلى ذلك الموضع لغرض (في) نفسه يصيبه، فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن لا مخلصاً لوجهه، وقال :﴿مهاجر إلى ربي﴾ يعني : توجهي إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلباً للجهة، إنما طلب لله.
قوله :﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ﴾، قِيلَ : إن الله لم يبعث نبياً بعد " براهيم " إلا من نَسْلِهِ، ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا﴾ وهو الثناء الحسن، وكل الأديان يقولون به، وقال السدي : هو الولد الصالح، وقيل : إنه رأى مكانه في الجنة ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي في زمرة الصالحين قال ابن عباس :" مثل آدم، ونوح " وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الله تعالى بدّل جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها لما عذبه قومه بالنار كان وحيداً فريداً، فبدل الله وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته، ولما كانت أقاربه القريبة ضالين مضلين من جملتهم " آزر " بدل الله أقاربه بأقارب مهتدين هادين، وهم ذريته الذين جعل فيهم النبوة والكتاب، وكان أولاً لا جاه له، ولا مال، وهم غاية اللذة في الدنيا آتاه الله أجره في المال والجاه وكثر ماله حتى كان له من المواشي ما علم الله عدَدَهُ حتى قيل : إنه كان له اثنا عشر ألف كلبٍ حارس بأطواق ذهب وأما الجاه فصار (بحيث تقرن) الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة، وصار معروفاً وشيخ المرسلين بعد أن كان خاملاً حتى قال قائلهم :﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء : ٦٠]، هذا الكلام لا يقال إلا في مخمول من الناس.
فإن قيل : إنَّ إسماعيلَ كان من أولاده الصالحين (وكان قد) سلم لأمر الله بالذبح، وانْقَادَ لحكم الله ولم يذكر.
٣٤٢
فالجواب : هو مذكور في قوله :﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ (و) لكن لم يصرح باسْمِهِ ؛ لأنه كان بين فضله معه بهبته الأولاد والأحفاد، فذكر من الأولاد واحداً وهو الأكبر، ومن الأحفاد واحداً كما يقال القائل : إن السلطان في خدمته الملوك والأمراء، والملك الفلاني، والأمير الفلاني، ولا يعدد الكل لأنه ذكر ذلك الواحد لبيان الجنس لا لخصوصه، ولولا ذكر غيره لفهم منه التعديد، واستيعاب الكل فيُظَنّ أنه ليس معه غير المذكور.
فإن قيل : إن الله تعالى لما جعل في ذريته النبوة أجابه لدعائه، والوالد يجب أن يسوي بين ولده فكيف صارت النبوة في ولد " إسحاق " أكثر من النبوة في أولاد إسماعيل ؟ فالجواب : أن الله تعالى قسم الزمان من وقت إبراهيم إلى (يوم) القيامة قسمين والناس أجمعين، فالقِسْم الأول من الزمان بعث الله تعالى (فيه) أنبياء فيهم فضائلُ جمّة، وجاءوا تترى واحداً بعد واحد، ومجتمعين في عصر واحد كلهم من ورثة إسحاق عليه السلام، (ثم في القسم الثاني من الزمان أخرج من ذرية ولده إسماعيل واحداً اجتمع فيه ما كان فيه وأرسله إلى كافة الخلق وهو محمد عليه السلام) وجعله خاتم النبيين، وقد دام الخلق على دين إسماعيل أكثر من أربعة آلاف سنة، ولا يَبْعُدُ أن يبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل مثل ذلك المقدار.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٣٤١
قوله تعالى :" وَلوطاً " إعرابه كإعراب إبراهيم ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ﴾ قرأ أبو عمرو، وحمزة والكسائي وأبو بكر " أَئِنَّكُم " بالاستفهام، وقرأ الباقون بلا استفهام، واتفقوا على استفهام الثانية " لَتَأتُونَ الفاحشة " وهو إتيان الرجال، ﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا﴾ يجوز
٣٤٣


الصفحة التالية
Icon