ويسقينا ؟ فأنزل الله تعالى :﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ﴾ وكم من دابة ذاتِ حاجة إلى غذاء و ﴿لا تحمل رزقها﴾ لضَعفها، كالقَمْلِ والبُرْغُوث والدود ﴿اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾ حيث ما كنتم " وهو السَّمِيعُ " لأقوالكم : ما نجد ما ننفق بالمدينة، ﴿العَلِيمُ بما في قلوبكم﴾.
قال سفيان : ليس شيء مما خلق الله نَجْباً إلا الإنسان والفأرة والنَّمْلَة روى بن عمر قال :" دخلت مع رسول الله - ﷺ - حائطاً من حوائط الأنصار فجعل رسول الله - ﷺ - يلقط الرُّطَبَ بيده ويأكل، فقال : كُلْ يا ابن عمر، (قلت : لا أشتهيها يا رسول الله قال : لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة لم أطعم طعاماً ولم أجده) فقلت : إنا لله الله المستعان قال يا ابن عمر : لو سألت ربي لأعطاني مثل ملْكِ كِسْرَى وقَيْصَرَ أضعافاً مضاعفة ولكني أجوعُ يوماً وأَشْبع يوماً فكيف بك يا ابن عمر إذا عَمَّرْتَ وبَقِيتَ في أمر الناس يُخْبِّئُونَ رزق سنة ويضعف اليقين فنزلت :﴿وكأين من دابة لا تحمل رقها﴾ الآية، وقال عليه (الصلاة و) السلام " لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ على اللَّهِ حقَّ تَوَكُّله لَرَزَقكُمْ كما يرزقُ الطيرَ تغدُو خِمَاصاً، وتروحُ بِطَاناً "
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٣٦٨
قوله تعالى :" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ " يعني كفار مكة ﴿مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ أي هم يعتقدون هذا فكيف يصدفون عن عبادة الله مع أن من عُلِمَ عظمُتُه وَجَب خدمَتُهُ ولا عظم فوق السماوات والأرض، ولا حاقرة فوق حقارة الجَمَاد ؛ لأن الجمادَ دونَ الحيوان والحيوانَ دونَ الإنسان، والإنسان دون سكان السماواتِ فكيف يتركون عبادة أعظمِ الموجوداتِ ويشتغلون بعبادة أخسّ الموجودات ؟ فصل لما بين أمر المشرِك مخاطباً معه، (ولم ينتفع به، وأعرض عنه، وخاطب
٣٧٣
المؤمنين بقوله :" يا عبادي " وأتم الكلام معه ذكر معه) ما يكون إرشاداً للمشرك بحيث يسمعه وهذا طريق في غاية الحسن، فإن السيد إذا كان له عبدان أو الوالد إذا كان ولدان، وأحدهما رشيد، والآخر مفسد ينصح أولاً المفسد فإن لم يسمع يلتفت إلى الرشيد ويعرض عن المفسد، ويقول : إن هذا لا يستحق الخطاب فاسمع أنت ولا يكن منك هذا المفسد فيتضمن هذا الكلام نصيحة الرشيد، وزجر المفسد، فإن قوله هذا لا يستحق الخطاب الموجب نكاية في قلبه، ثم إذا ذكر مع المصلح في أثناء الكلام والمفسد يسمعه إنَ هذا أخاك العجب منه أنه يعلم قبح فعله ويعرف فيه الفساد من الصلاح، وسبيل الرشاد والفلاح ويشتغل بضده يكون هذا الكلام أيضاً داعياً إلى الرشاد ومانعاً له من الفساد فكذلك قال الله للؤمِنِ العجب منهم إنهم إن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولون الله ثم لا يُؤْمِنُونَ.
فصل ذرك في السماوات والأرض الخلق، وفي الشمس والقمر التسخير، لأن مجرد خلق الشمس والقمر ليس حكمة فإن الشمس لو كانت مخلوقةً بحيث تكون في موضع واحد لا تتحرك ما حصل الليل ولا النهار، ولا الصيف ولا الشتاء فإذن الحكمة في تحريكهما (وتسخيرهما).
واعلم أن في لفظ التسخير دون التحريك فائدة وهي أن التحريك يدل على مجرد الحركة، وليست مجرد الحركة كافية ؛ لأنها لو كانت تتحرك مثل حركتنا لما كانت تقطع الفلك في ألُوف من السنين، فالحكمة في تسخيرها تحريكها في قدر ما ينتقل الإنسان آلافاً من الفراسخ، ثم لم يجعل لها حركةً واحدة، بل حركات.
إحداها : حركة من المشرق إلى المغرب في كل يوم وليلة مرة، والأخرى : حركتها من المغرب إلى المشرق ويدل عليها أن الهلال يرى في جانب (المغرب) على بعد مخصوص من الشمس ثم يبعد منها غلى جانب المشرق حتى يُرى القمر في نصف الشهر في مقابلة الشَّمْس، والشمس على أفق المغرب، والقمر على أفق المشرق وأيضاً حركة الأوج، وحركة المائل والتدوير في القمر، ولا الحركة التي من المغرب إلى المشرق لما حصلت الفصول.
واعلم أن أصحاب الهيئة قالوا : الشمس مركوزة في الفلك، والفلك يديرها بدَوَران.
وأنكره المفسرون الظَّاهِريُّونَ.
واعلم أنه لا بعد في ذلك (إن) لم يقولوا
٣٧٤


الصفحة التالية
Icon