يخاف الابتلاء فيستعد له، والذي له صهْريج، أو مصنع يحتاج إلى ماء أو زرع يسوي مجاري الماء، وأيضاً أهل البوادي لا يعلمون أن البلاد عشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروقَ اللائحة من جانبٍ دُونَ جانبٍ، واعلم أن دلائل البرق وفوائده وإن لم تظهر للمُقِيمينَ في البلاد فهي ظاهرة للبادين فلهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية.
فصل أما كونه آيةً فلأن الذي فس السحاب ليس إلا ماءً وهواءً وخروج النار منهما بحيث يحرق الجبال في غاية البعد فلا بد له من خالق وهو الله.
وقالت الفلاسفة : السحاب فيه كثافة ولطافة بالنسبة إلى الهواء أو الماء فالهَوَى ألطف منه والماء أكثف فإذا هبت الريحُ قويةً تحرك السحابُ فيَحْدُثُ صوت الرعد وتخرج منه النار، كما أن النار تخرج من وَقْعِ الحَجَر على الحَديد فإن قيل : الحديد والحجر جسمان صُلْبَان، والسحاب والريح جسمان (لَيَنانٍ)(فنقول لكن حركة يد الإنسان ضعيفة، وحركة الريح قوية تقلع الأشجار) فنقول لهم الرعد والبرق (أَمْرانِ) حادثان لا بد لهما من مسبِّب، وقد علم بالبرهان كونُ كلِّ حادث (فهما) من الله ثم نقول :(هب) أن الأمر كما يقولون فهبوب تلك الريح القوية من الأمور الحادثة العجيبة فلا بد لها من سبب وينتهي إلى واجب الوجود فهو آية للعاقل على قدرة الله كَيْفَمَا فَرَضْتُمْ.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله ههنا :﴿آيات لقوم يعقلون﴾ وقوله فيما تقدم :" لقوم يتفكرون ؟ " فالجواب : لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أن ذلك بالطبيعة لأن المطرد أقرب إلى الطبيعة (من) المختلف، والبرق والمطر ليس أمراً دون وقت، وتارة يكون قوياً، وتارة يكون ضعيفاً فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار، فقال هو آية لمن له عقل وإن لم يتفكر تفكراً تاماً.
٤٠٠
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٣٩٦
قوله تعالى :﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ قال ابن مسعود : قامتا على غير عُمُدٍ بأمره.
واعلم أنه ذكر من لوزم المساء والأرض قيامهما فإن الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء في علوها معجب من علوها وثباتها من غير عمد، وهذا من اللوازم، فإن الأرض لا تخرج عن مكانه الذي فيه.
(فإن قيل :) بأنها تتحرك في مكانها كالرَّحَاء، ولكن اتفق العقلاء على أنها في مكانها (لا تخرج عنه.
وهذا آية ظاهرة لأن كونهما في الموضع الذي هما فيه، وعلى الموضع الذي هما عليه) من الأمور الممكنة وكونهما في غير ذلك الموضع جائز فكان يمكن أن يَخْرُجَا منه، فلمّا لم يخرجا كان ذلك ترجيحاً للجائز على غيره وذلك لا يكون إلا بفاعل مختار، وقالت الفلاسفة : كون الأرض في الكائن الذي هي فيه طبيعى لها لأنها أثقل الأشياء، والثقيل يطلب المركز والخفيف يطلب المحيط وكون السماء في مكانها إن كانت ذات مكان فلذاتها، فقيامها فيه لطبعها وأُجيبُوا بأنكم وافقتمونا بأن ما جاز على أحد المثلين جاز على المثل الآخر لكن مقعَّر الفلك لا يخالف مُحْدَبه في الطبع فيجوز حصول مقعره في موضع محْدبه وذلك بالخروج والزوال فإذن تطرق الزوال إليه عن المكان ممكن لا سيما على السماء الدنيا فإنها ليست محدّده للجهات على مذهبكم أيضاً والأرض كانت يجوز عليها الحركة الدورية كما تقول على السماء فعدمها وسكونها ليس إلا بفاعل مختار.
فصل ذكر الله تعالى من كل باب أمرين : أما من الأنفس فقوله :" (خلقكم) وخلق لكم " واستدل بخلق الزوجين ومن الآفاق السماء والأرض (فقال :" خلق السماوات والأرض " ) ومن لواز الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارض الآفاق البَرْقَ والأمطار ومن لوازمها قيام السماء والأرض ؛ لأن الواحد يكفي للإقرار بالحق، والثاني يفيد الاستقرار ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين، فإن قول أحدهما يفيد الظن، ، وقول الآخر يفيد تأكيده، ولهذا قال إبراهيم عليه (الصَّلاَة و) السلام :﴿بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة : ٦٠].
٤٠١


الصفحة التالية
Icon