قوله :﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ﴾ فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح، فالأجسام أجزاءها في الأرض والأرواح في السماء فقوله :﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ إشارة إلى علمه بالأرواح، وقوله :﴿وَلاَ فِي الأَرْضِ﴾ إشارة إلى عمله بالأجسم فإذا علم الروح والأجسام قدر على جمعها فلا اسبعاد في الإعادة.
قوله :" وَلاَ أَصْغَرُ " العامة على رفع " أصْغَر وأَكْبَر " وفيه وجهان : أحدهما : الابتداء، والخبر قوله " إلاَّ فِي كِتَابٍ ".
والثاني : النَّسَق على " مِثْقَالِ " وعلى هذا فيكون :" إلاَّ فِي كِتَابٍ " تأكيداً للنفي في :" لاَ يَعْزُبُ " كأنه قال لكنه في كتاب مبين وقرأ قتادة والأعمش ورويت عن أبي عمرو ونافع أيضاً بفتح الراءين.
وفيها وجهان : أحدهما : أنها " لا " التبرئة وبني اسمها معها، والخبر قوله :" إلاَّ فِي كِتَابٍ ".
والثاني : النسق على " ذَرَّةٍ " وتقدم في يونس أن حمزة قرأ بفتح رَاءِ " أَصْغَر " وأَكْبَر " وهنا وافق على الرفع وتقدم البحث هناك.
قال الزمخشري : فإن قلتَ : هَلاَّ جَازَ عطفُ :" وَلاَ أصْغَر " على " مِثْقَالِ " وعطف " وَلاَ أَكْبَر " على ذرة ؟ قُلْتُ : يأبي ذلك حرف الاستثناء إلا اا إذا جعلت الغيب اسماً للخفيات قبل أن تكتب في اللوح المحفوظ لأنها إثبات في اللوح نوع من البُرُوزِ عن الحجاب على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يُزَال عنه إلا مسطوراً في اللوح.
قال أبو حيان : ولاَ يُحْتَاج إلى هذا التأويلٍ إذ جعلنا الكتاب ليس اللوح
المحفوظ، وقرأ زيد بن علي بخفض راء أصغر وأكبر وهي مشكلة جداً، وخرجت على أنهما في نية الإضافة، إذ الأصل :" ولا اصغره ولا أكبره " وما لا ينصرف إذا أضيف انجر في موضع الجر ثم حذف المضاف إليه ونوي معناه فترك المضاف بحاله وله نظائر كقولهم :
٤١٠٢ - بَيْنَ ذِرَاعِيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ
٤١٠٣ - يَا تَيْمَ تَيْم عَدِيِّ
على خلاف.
وقد يفرق بأن هناك ما يدل على المحذفو لفظاً بخلافِ هنا.
وقد ردّ بعضهم هذا التخريج لوجود " من " ؛ لأنَّ " أفعل " متى أضيف لم يجامع " مِنْ " وأجيب عن ذلك بوجهين : أحدهما : أن (مِنْ) ليست متعقة " بأفعل " بل محذوف على سبيل البيان ؛ لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم المضاف فبين " بمن " ومجروها أي أعني من ذلك.
والثاني : أنه مع تقديره للمضاف إليه نوي طرحه، فلذلك أتى " بِمن " ويدل على ذلك أنه قد ورد التصريح بالإضافة مع وجود " من " قال الشاعر : ٤١٠٤ - نَحْنُ بِغَرْسِ الوَدِيِّ أعْلَمُنَا
مِنَّا بِرَكْضِ الجِيادِ في السُّدَفِ
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٣
وخرج على هذين الوجهين إلى التعليق بمحذوف وإما نية طرح المضاف إليه وهذا كما احتاجوا إلى تأويل الجمع بين " أل " ومن في أفعل كقوله : ٤١٠٥ - ولَسْتُ بالأكْثَرِ مِنْهُمْ حَصَى
.........................
وهذه توجيهات شذوذ ويكفي فيها مثل ذلك.
فصل قوله :﴿وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ﴾ إشارة إلى أن مثقال لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب.
فإن قيل : فأيُّ حاجة إلى ذلك الأكبر وإنَّ من علم الأصغر من الذرة لا بدّ وأن يعلم الأكبر ؟ فالجواب : لما كان الله تعالى أراد بينان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهمٌ أنه يثبت الصغائر لكونها محل النّسيان وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال الإثبات في الكبائر ليس كذلك فإن الأكبر فيه أيضاً مكتوب ثم لما بين علمه بالصغائر والكبائر ذكر أن جميع ذلك وإثباته للجزاء فقال :﴿لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾.
قوله :" لِيَجْزِيَ " فيه أوجه : أحدهما : أنه متعلق (بلا) وقال أبو البقاء و (يعزب) بمعنى لا يعزب أي يُحْصِي ذلك ليجزي.
وهو حس أو بقوله :" ليأتِيَنًّكُمْ " أو بالعامل في قوله :" إلاَّ فِي كَتَابٍ " اي إلا استقر ذلك " في كتاب مبين " لِيَجْزِيَ.