قوله :" جنتان " فيه ثلاثة أوجه : الرفع على البدل من " آية " وأبد مُثَنَّى من مفرد لأن هذا المفرد يصدق على هذا المثنى وتقدم في قوله :﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون : ٥٠].
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر.
وضعف ابن عطية الأول ولم يبينه.
ولا يظهر ضعفه بل قوته وكأنه توهم أنهما مختلفان إفراداً أو تثنية فلذلك ضعف البدل عنده والله أعلم.
الثالث - وإليه نحا ابن عطية - أن يكون جنتان متبدأ وخبره " عَنْ يَمِينٍ وشِمَالٍ ".
وردَّة أبو حيان بأنه ابتداء بنكرة من غير مسوغ واعْتُذِرَ عنه بأنه قد يعتقد حذف صفة أي جَنَّتَانِ لهم أو جنتان عَظِيمَتان فيصح ما ذهب إليه وقرأ ابن أبي عبلة جنتين بالياء نصباً على خبر كان واسمها " آية ".
قإن قيل : اسم كان كالمبتدأ ولا مسوغ للابتداء به حتى يجعل اسم كان والجواب أنه يخصص بالحال المتقدمة عليه وهي صفته في الأصل ألا ترى أنه لو تأخر " لِسَبأٍ " لكان صفة " لآية " في هذه القراءة.
قوله :" عَنْ يَمينٍ " إما صفة لجنتان أو خبر مبتدأ مضمير أي هما عن يمين قال المفسرون أي عن يمين الوادي وشماله.
وقيل : عن يمين من أتاها وشماله وكان لهم وادٍ قد أحاط الجنتان بذلك الوادي.
قال الزمخشري : أيَّةُ آيَةٍ في جنتين مع أن بعض بلاد العراق فيها ألف من الجِنَان ؟ وأجاب بأن المراد لكل واحد جنتين أو عن يمين أيديهم وشمالهم جماعات من الجنان ولإيصال بعضها ببعض جعلها جنة واحدة.
٤١
قوله :" كُلُوا " على إضمار القول أي قَالَ اللَّه أو المَلَكُ كُلُوا من رزق ربكم.
وهذه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم واشكروا له على ما رزقكم من النعمة فإن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة أي اعملوا له بطاعته.
قوله " بَلْدَةٌ " أي بَلْدَتثكُمْ بلدةً (طيبة) وربكم " رَبُّ غَفُورٌ " والمعنى أن أرض سبأ بلدة طيبة ليست مسبخة.
قال ابن زيد : لم ير في بلدتهم بَعُوضَة ولا ذُبابٌ ولا بُرْغُوثٌ ولا حيَّة ولا عقربٌ ولا وباءٌ ولا وَخَم وكان الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل كلها من طيب الهواء، فذلك قوله :﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ أي طيبة الهَوَاءِ " ورب غفور " قال مقاتل : وربكم إنشَكَرْتُمْ فيما رزقكم رب غفور للذنوب.
وقيل ورب غفور أي لا عقاب عليه ولا عذاب في الآخرة وقرأ رويس بنصب " بلدةٍ، وَرَب " على المدح أو اسكنوا أو اعبدوا وجعله أبو البقاء مفعولاً به والعامل فيه " اشْكُرُوا " وفيه نظر ؛ إذ يصير التقدير اشكروا لربكم رَبًّا غفوراً، ثم إنه تعالى لما بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم فقال :" فَأَعْرَضُوا " من كمال ظلمهم، الإعراض بعد إبانة الآية كقوله :﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ﴾ [السجدة : ٢٢] قال وهب : أرسل الله إلى سبأَ ثلاثةَ عَشَرَ نبياً فدعوهم إلى الله وذكروهم نعم الله عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله عزّ وجلّ علينا نعمةً، فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك قوله عزّ وجلّ : فَأَعْرَضُوا، ثم ذكر كيفية الانتقام منهم كما قال تعالى :﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ﴾ [السجدة : ٢٢] وكيفيته أنه تعالى أرسل عليهم سيلاً غرَّق أموالهم وخَرَّب دُورَهُمْ.
قوله :﴿سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ العَرِمُ فيه أوجه : أحدهما : أنه من باب إضافة الموصوفِ لصفته في الأصل إذ الأصل : السَّيْلُ العَرِمُ، والعَرِمُ الشديد وأصله من العَرَامَة، وهي الشَّراسَةُ والصعوبة وعَرِمَ فُلاَنٌ فَهُوَ عارِمٌ وَعرِم وعُرَام الجَيْشِ منه.
٤٢
الثاني : أنه من حذف الموصوف وإقامة صفته مُقامه تقديره فأرسلنا عليهم سَيْلَ المَطَرِ العَرِمِ أي الشديد الكثير.
الثالث : أن العَرِم اسم للبناء الذي يجعل سداً وأنشد (قول الشاعر) : ٤١٢٩ - مِنْ سَبَأِ الحَاضِرين مَأْرِبَ إذْ
يَبْنُونَ مِنْ سَيْلِهِ العَرِمَا
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٣٧
أي البناء القوي.
قال البغوي : العَرَمْ والعَرَمُ والعَرِمُ جمع عَرَمَةٍ وهي السد الذي يحبس الماء.
الرابع : أن العَرِم اسم للوادي الذي كان فيه الماء نفسه.
وقال ابن الأعرابي : العرم السيل الذي لا يطاق وقيل : كان ماء أحمر أرسله الله عليهم من حيث شاء.
الخامس : أنه اسم للجرذ وهو الفأر.
وقيل : هو الخُلْدُ وإنما أضيف إليه ؛ لأنه تسبب عنه إذ يروى في التفسير أنه قرض السدّ إلى أن انفتح عليهم فغرقوا به.
وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الإضافة إضافةً صحيحة معرفة نحو : غُلاَمُ زَيْدٍ، أي سيل البناء أو سيل الوادي الفُلاَنيّ أو سيل الجُرْذِ.
وهؤلاء هم الذين ضربت العرب بهم المثل للفُرْقة فقالوا " تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ سَبَا ".
وقد تقدم.
٤٣


الصفحة التالية
Icon