بتشديد العين فعل طلب والباقون بَاعِدْ طلب أيضاً من المفاعلة بمعنى الثلاثي.
وقرأ ابن الحَنَقِيَّة وسُفْيَان بن حُسَيْنِ وابن السَّميفع بَعْدَ بضم العين فعلاً ماضياً والفاعل المسير أي بَعُد المَسِيرُ، و " بين " ظرف وسعيد بن أبي الحسن كذلك إلا أنه ضَمَّن نون بين جعله فَاعِلَ " بَعُدَ " فأخرجه عن الظرفية، كقراءة ﴿تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام : ٩٤] رفعاً.
فالمعنى على القراءة المتضمنة للطلب أنهم أَشِرُوا وبَطَرُوا فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسْفَارِ، وعلى القراءة المتضمنة للخبر الماضي يكون شكوى من بعد الأسفار التي طلبوها أولاً وقرأ جماعة كبيرةٌ منهم ابن عباس وابن الحنفية ويعقوب (وعمرو) بن فايد :" رَبُّنَا " رفعاً على الابتداء بَعَّدَ بتشديد العين فعلاً ماضياً خبره، وأبو رجاء والحَسَنُ ويعقوبُ كذلك إلا أنه " بَاعَد " بالألف والمعنى على هذه القراءة شكوى بعد أسفارهم على قربها ودُنُوِّها تَعَنُّتاً منهم وقرئ :" بُوعِدَ " مبنياً للمفعول.
وإذا نصبت " بين " بعد فعل متعد من هذه المادة في إحدى هذه القراءات سواء أكان أمراً أم ماضياً فجعله اسماً " ؟ قال شها الدين : إقراره على ظرفيته أولى ويكون المفعول محذوفاً تقديره بعد المسيرُ بين أسفارنا.
ويدل على ذلك قراءة بَعُدَ بضمّ العين بَيْنَ بالنصب فكما يضمر هنا الفاعل وهو ضمير السَّيْر كذلك يبقى هنا " بين " على بابها وينوى السَّير وكان هذا أولى ؛
٤٩
لأن حذف المفعول كثيرٌ جداً لا نزاع فيه وإخراج الظرف غير المتصرف عن ظرفيته فيه نزاع كثير.
وتقدم تحقيق هذا والاعتذار عن رفع " بَيْنكُمْ " في الأنْعَامِ وقرأ العامة أَسْفَارِنَا جَمْعاً.
وابن يَعْمُرَ " سَفَرنا " مفرداً.
قوله :﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم ﴿ومَزَّقْناهُمّ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ وفرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق.
وهذا بيان لجعلهم أحاديث.
قال الشعبي : لما غرقت قُراهم تفرّقوا في البلاد أما غسان فلحقوا بالشام ومرَّ الأزد على عمان وخزاعة إلى تِهامة وموالي جذيمة إلى العراق والأوس والخزرج إلى يثرب وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بْنُ عامر وهو جدّ الأوس والخزرج.
قوله :﴿إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ﴾ أي فيما ذكرنا من حال الشاكرين ووبال الكافرين لِعبَرٌ ودَلاَلاَتٌ " لِكُلِّ صَبَّارٍ " عن معاصي الله " شَكُورٍ " لنعمة الله قال مقاتل : يعني المؤمن في هذه الآية صبور على البلاد شكور للنعماء قال مُطْرِفٌ : هو المؤمن إذا أُعْطِيَ شَكَر، وإذا ابتُلي صَبَرَ.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٣٧
قوله :﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّه﴾ قرأ الكوفيون صَدَّقَ بتشديد الدال والباقون
٥٠
بتخفيفها، فأما الأولى " فظَنَّهُ " مفعول به والمعنى أن طنَّ إبليس ذهب إلى شيء فوافق فصدق هو ظنه على المجاز والاتساع ومثله : كَذَّبْتُ ظَنِّي ونَفْسي وصَدَّقْتُهُمَا وصدَّقَانِي وَكذَّبانِي وهو مجاز شائع سائغ أي ظن شيئاً فوقع وأصله من قوله :﴿ولأضلنهم﴾ [النساء : ١١٩] وقوله :﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص : ٨٢] ﴿وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف : ١٧] فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه.
وأما الثانية : فانصب " ظنه " على ما تقدم من المفعول به كقولهم " أصَبْتُ ظَنِّي، وأَخْطَأت ظَنِّي " أو على المصدر بفعل مقدر أي " يَظُنُّ ظَنَّهُ " أو على إسقاط (الخافض أي) في ظَنَّه، وزيد بن علي والزُّهْريُّ بنصب " إبليسَ " ورفع " ظَنُّهُ " كقول الشاعر : ٤١٣٠ - فَإنْ يَكُ ظَنِّي صَادِقاً فَهْوَ صَادق
..........................
جعل " ظنه " صادقاً فيما ظنه مجازاً واتساعاً، وروي عن أبي عمرو برفعهما وهي
٥١


الصفحة التالية
Icon