مَنْ يَشَاء " وذلك لأن أشخاص الناس متساوية في الحقيقة والإساءة والإحسان والسيئة والحسنة تمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون ذلك بالاستقلال منهم فلا بدّ من الاستناد إلى إرادة الله تعالى.
ثم سلى - رسول الله ﷺ - حيث حزن على إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجةٍ قاهرة فقال :﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ كقوله تعالى :﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ﴾ [الكهف : ٦] أي لا تغتمّ بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا.
قوله :﴿فَلاَ تَذْهَبْ﴾ العامة على فتح التاء مسنداً " لِنَفْسِك " من باب " لاَ أَرَيَنَّكَ هَهُنَا " أي لا تتعاط أسباب ذلك.
وقرأ أبو جعفر وقتادة والأشهب بضم التاء وكسر مسنداً لضمير المخاطب (و) نَفْسَك مفعول به.
قوله :﴿حَسَرَاتٍ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه مفعول من أجله أي لأَجْلِ الحَسَرَاتِ.
والثاني : أنه في موضع الحال على المبالغة كأن كلها صَا (رَ) تْ حَسَرَاتٍ لفرط التحسر كما قال : ٤١٥٢ - مشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى
حَتَّى ذَهَبْنَ كَلاَكِلاً وَصُدُوراً
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٠٣
يريد : رجعن كلاكلاً وصدرواً، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها كقولهم (شعر) :
١٠٦
٤١٥٣ - فَعَلَى إثْرِهم تَسَاقَطُ نَفْسِي
حَسَرَاتٍ وذَِكْرُهُم لِي سَقَامُ
وكون " كلاكل وصدور " حال قوله سيبويه وجعلها المُبَرِّدُ تَمْييزين منقولين من الفاعلية والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر.
ثم قال :﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون﴾ أي الله عالم بفعلهم يجازيهم على ما يصنعونه، ثم عاد إلى البيان وقال :﴿وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ﴾ وهبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار، لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال وفي حركاته المخلتفة قد يُنْشِئ السَّحَابَ وقد لا يُنْشِئُ.
فهذه الاختلافات دليل على مسخَّرٍ مدبِّرٍ مُؤَثِّر مُقَدِّرٍ.
قوله :﴿فَتُثِرُ﴾ عطف على " أرْسَلَ " لأن " أرْسَلَ " بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأرْسَلَ لِتَحقُّقِ وقوعه.
و " تثيرُ " لتصور الحال واستحضار الصورة البديعية كقوله :﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ [الحج : ٦٣] وكقول تَأبَّكَ شَرًّا : ٤١٥٤ - ألاَ مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيَانَ فَهْمٍ
بِمَا لاَقَيْتُ عِنْدَ رَحَا مَطَانِ
بأنِّي قد رأيت الغول تَهْوِي
بِسَهْبٍ كالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانِ
فَقُلْتُ لَهَا كِلاَنَا نِضْوُ أرْضٍ
أَخُو سَفَرٍ فخل لِي مَكَانِي
فَشَدَّتْ شَدَّةً نَحْوِي فَأَهْوَتْ
لَهَا كَفِّي بمصقول يَمَانِي
فَأَضْرِبُهَا بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّتْ
صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ ولِلْجِرَانِ
١٠٧
حيث قال :" فأضربها " ليصور لقوله حاله وشجاعته وجرأته وقوله :" فَسُقْنَاهُ و أَحْيَيْنَا " معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدْخَلُ في الاختصاص وأدلّ عليه.
فصل قال : أرسل بلفظ الماضي وقال :﴿فَتُثِيرُ سَحَاباً﴾ بلفظ المستقبل، لأنه لما أُسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزءاً من الزَّمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان، ولأنه فرغ من كل شيء فهو قدّر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة.
ولما أسند فعل الإشارة إلى الريح ويه تؤلَف في زمان فقال : تُثِيرُ أي على هيئتها وقال :" سُقْنَا " أسند الفعل غلى المتلكم وكذلك في قوله :" فَأحْيَيْنَا " لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعلا وهو الإرسال ثم لما عرف قال : أنا الذي بَعَثْتُ السَّحَاب وأحْيَيْتُ الأَرْضَ.
ففي الأول كان تعريفاً بالفعل العجيب وفي الثاني : كان تذكيراً بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحاب بالسَّوْقِ والإحياء وقوله :" سُفْنَا وَأَحْيَيْنَا " بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين قوله :" أرسل " وبين قوله :" تثير " ثم قال :" كَذَلِكَ النُّشُورُ " أي من القبور ووجه التشبيه من وجوه : أحدها : أن الأرض الميتة لما وصلت الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة.
وثانيها : كما أن الريح تجمع القِطَعَ السحابية كذلك نجمع أجزاء الأعطاء وأبعَاضَ الأشياء.
وثالثها : كما أنَّا نسوق الرِّيح والسحاب إلى البلد نسوق الرُّوحَ إلى الجسد الميِّت.
فإن قيل : ما الحكمة في هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد ؟ فالجواب : أنه تعالى لما ذكر أنه فاطر السماوات والأرض وذكر من الأمور السماوية والأرواح وإرسالها بقوله :" جَاعِلِ الملائكة رسلاً أولي أجنحة " ذكر في الأمور الأرضية الرِّياحَ.
١٠٨
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٠٣