وأجاب فقال : فإن قلت : فكيف جعلت " جنات عدن " بدلاً من " الفضل " الذي هو السبق بالخيرات (المشار إليه بذلك ؟ قلت : لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب) فأبدل عنه " جنات عدن " وقرأ زِرّ والزّهري جَنَّةٌ مفرداً والجَحْدَريُّ جناتِ بالنصب على الاشتغال وهي تؤيد رفعها بالابتداء وجوز أبو البقاء أن كون " جنات " بالرفع خبراً ثانياً لاسم الإشارة وأن يكون خبر مبتدأ محذفو وتقدمت قراءة يَدْخُلُونَهَا للفاعل أو المعفول وباقي الآية في الحَجِّ.
فصل قيل : المراد بالداخلين الأقسام الثلاثة.
وهذا على قولنا بأنهم أقسام المؤمنين.
وقيل : الذين يتلون كتاب الله وقيل : هم السابقون وهو أقوى لقرب ذكرهم ولأنه ذكر إكرامهم بقوله :﴿يُحَلَّوْنَ﴾ والمكرم هو السابق.
فإن قيل : تقديم الفالع على الفعل وتأخير المفعول عنه موافق لترتيب المعنى إذا كان المفعول حقيقياً كقولنا : اللَّهُ الِّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وقول القائل : زَيْدٌ بَنَى الجِدَارَ، فإن الله موجود قبل كل شيء ثم له فعل هو الخلق ثم حصل به المفعول وهو السّموات وكذا زيد ثم البناء ثم الجدار من البناء وإذا لم يكن المفعول حقيقاً كقولنا : دخل الداخلُ الدار، وضرب عمراً فإن " الدار " في الحقيقة ليس مفعولاً للداخل وإنما فعله متحقق بالنسبة إلى الدار وكذلك عمرو فعل (من أفعال) زيد تعلق به فسمي مفعولاً ولكن الأصل تقديم الفعل على المفعول ولهذا يعاد الفعلُ المقدّم بالضمير تقول : عَمْراً ضَرَبَهُ
١٤١
زَيْدٌ فتوقعه بعد الفعل بالهاء العائدة إليه وحينئذ يطول الكلام فلا يختاره الحكيم إلا لفائدة فما الفائدة في تقديم " الجنات " على الفعل الذي هو الدخول وإعادة ذكرها بالهاء في " يدخلونها " وما الفرق بني هذا و " بَيْنَ " قوله القائل : يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ ؟ فالجواب : أن السامعَ إذا علم له مدخلاً من المداخل وله دخول ولم يعلم غير المدخل فإذا قيل له : أنت تَدْخُلُ مال إلى أن يسمع الدار والسوق فيبقى متعلق القلب بأنه في أي المداخل يكون.
فإذا قيل :" الدّارَ تَدْخُلُهَا " فيذكر الدار يعلم مدخله وبما عنده من العلم السابق بأنه له دخولاً يعلم الدخول فلا يبقى متعلق القلب ولا سيما الجنة والنار فإن بين المُدْخَلِين بوناً بعيداً.
قوله :﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا﴾ إشارة إلى سرعة الدخول فإن التحلية لو وقعت خارجاً لكان فيه تأخير المدخول فقال :﴿يَدْحُلُونَها﴾ وفيها يقع تَحْلِيَتُهُمْ، وقوله :" مِنْ أَسَاورَ " بجمع الجمع فإنه جمع " أسْوِرَة " وهي جمع " سِوَار " " مِنْ ذَهَبٍ ولُؤلؤاً " وقوله :﴿وَلِبَاسُهُمْ﴾ أي ليس كذلك لأن الإكثار من اللباس يدل على حاجة مَنْ دفع برد أو غيره والإكثار من الزينة لا يدل (إلا) على الغِنَى، وذكر الأساور من بين سائر الحُلِيِّ في مواضع كثيرةٍ كقوله تعالى :﴿وَحُلُّوا ااْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ﴾ [الإنسان : ٢١] وذلك لأن التحلي بمعنيّيْن : أحدهما : إظهار كون المتحلّي غير مبتذل في الأشْغال لأن التحَلِّي لا يكون (حَالُهُ) حَالَةَ الطبخِ والغُسْلِ.
وثانيهما : إظهار الاستغناء عن الأشياء وإظهار القدرة على الأشياء لأن التحلي إما بالآلِئَ والجواهر وإما بالذهب والفضة والتحلِّي بالجواهر واللآلىء يدل على أن المُتَحَلِّي لا يعجز عن الوصول إلى الأشياء الكثيرة عند الحاجة حيث لم يعجز عن الوصول إلى الأشياء العزيزة الوجود لا لحاجة والتحلِّي بالذهب والفضة يدل على أنه غير محتاج حاجة أصلية وإلا لصرف الذهب والفضة إلى دفع حاجَتِهِ وإذا عرف هذا فنقول : الأساوِرُ محلّها الأيدي وأكثر الأعمال باليد فإذا حليت بالأساور عُلِمَ الفراغُ من الأعمال.
١٤٢