الالتفات وقرأ حمزةٌ ويعقوبُ ما لي بإسكان الياء والآخرون فتحها واعلم أن قوله :﴿وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ﴾ أَيْ أيُّ مانع من جانبي وهذا إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه فمن يمنع من عبادته يكون من جانبه مانع ولا مانع من جانبي فلا جَرَمَ عبدته وفي العدول من مخاصمة القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى وهي أنه لو قال : ما لكم لا تعبدون الذي فطركم " لم يكن في البيان مثل قوله :﴿وَمَا لِيَ﴾ لأنه لو قال :" وَمَالِي " وأحد لا يخفى عليه (حال) نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعمل بحال نفسه فهو بين عدم المانع وأما لو قال :" وَمَا لَكُمْ " جاز أن يفهم (منه) أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه، وقوله :﴿الَّذِي فَطَرَنِي﴾ إشارة إلى وجود المقتضي، فإن قوله :" وَمَا لِي " إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضي فقوله :﴿الَّذِي فَطَرَنِي﴾ دليل المقتضي فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعمٌ بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم عليه شكر نعمته.
وقدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضي مع أن المستحسن تقديم ما هو أولى بالبيان للحاجة إليه واختار من الآيات فطرة نفسه لأن خَالِقَ عَمْرو يجب على زيدٍ عبادتُه لأن من خلق عمراً (لا يكون إلا) كامل القدرة واجب فهو مستحق العبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على " زيد " بخلق " زيد " أظهر إيجاباً فصل أضافَ الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم كأن الفطرة أثر النعمة وكان عليه أظهر وفي الرجوع معنى الشكر وكان بهم أليق.
روي أن لما قال : اتبعوا المرسلين أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له :" أَفَأَنْتَ تَتَّبِعُهُمْ " ؟ فقال :﴿وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي أي شيء يمنعني أن أعبد خالقي وإليه ترجعون تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم.
ومعنى فطرني : خلفني اخترعاً ابتداء.
وقيل جعلني على الفطرة
١٩٢
كما قال تعالى :﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم : ٣٠].
قوله :﴿أَأَتَّخِذُ﴾ استفهام بمعنى الإنكار، أي لا أتخذ من دونه آلهةً و " مِنْ دُونِهِ " يجوز أن يتعلق " بأَتِّخِذُ " على أنها متعدية لواحد وهو " آلهة " ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " آلهة " وأن يكون مفعولاً ثانياً قدم على أنها المتعدية لاثنين.
فصل في قوله :" من دونه آلهة " لطيفة وهي أنه لما بين أنه يعبد الذي فطهر بين أن مَنْ دُونَهُ لا يجوز عبادة لأن الكل محتاجٌ مفتقرٌ حادثٌ وقوله :﴿أَأَتَّخِذُ﴾ إشارة إلى أن غيره ليس بإلَهِ لأن المتخذ لا يكون إلهاً قوله :" إنْ يُرِدْنِي " شرط جوابه " لاَ تُغْنِ عَنِّ " والجملة الشرطية في محل نصب صفة " لآلهةٍ " وفتح طلحة السَّلْمَانِي - وقيل : بِضُمر بمعنى إن يُورِدْنِي ضُرًّا أي يجعله مَوْرداً للضر قال أبو حيان : وهذا والله اعلم رأى في كتب القراءات بفتح الياء فتوهم أنها ياء المضارعة فجعل الفعل متعدياً بالياء المعدية كالهمزة فلذلك دخل همزة التعدية فنصب به اثنين والذي في كتب القراءات الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطًّا ونطقاً لالتقاء الساكنين قال
١٩٣


الصفحة التالية
Icon