النصر مخافة أن يْغلَبَ ويذهبَ ماءُ وَجْهِهِ وإنما يَنْصُرُ ويغيث من كان من شأنه أن يُغِيثَ فقال :" لاَ صِرِيخَ لَهُمْ " وأما من لا يكون من شأنه أن ينقذ إذا راى من يعين عليه في نصره يشرع في الإنقاذ وإن لم يثِقْ من نفسه في الإنقاذ ولا يغلب على ظنه وإنما يبذل المجهود فقال :" ولا هم ينقذون " ولم يقل : ولا منقذ لهم، ثم استثنى وقال :" إلا رَحْمَةَ مِنَّا وَمَتَاعاً إلى حِينٍ " وهو يفيد أمرين : أحدهما : انقسام الإنقاذ إلى قسمين : الرحمة والمَتَاع أي فمن عَلِمَ أنه يؤمن فينقذه الله رحمة وفيمن علم أنه لا يؤمن فليمتنع زماناً ويزداد إثمه.
وثاينهما : أنه بيان لكون الإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزّوال في الدنيا لا بدَّ منه، فينقذه رحمة ويمتعه إلى حين ثم يميته فإذن الزوال لازم أن يقع.
قال ابن عباس المراد " بالحِينِ " انقضاء آجالهم يعني (إلاَّ) أن يرحمهم ويمتعهم إلى حين آجالهم.
قوله :" إلاَّ رَحْمَةً " منصوب على المفعول له وهو استثناء مفرغ، وقيل : استثناء منقعطع وقيل : على المصدر بفعل مقدَّر، أو على إسقاط الخافض أي إلا برحمةٍ والفاء في قوله :" فَلاَ صَرِيخَ " رابطةٌ لهذه الجملة بما قبلها ؛ فالضمير في " لَهُمْ " عائد على المُغْرَقينَ " وجوز ابن عطية هذا ووجهاً آخَر وجعله أحْسَنَ منه وهو أن يكون استئناف إخبار عن المُسَافِرينَ في البحر ناجينَ كانوا مُغْرَقِينَ هم بهذه الحالة لا نجاة لهم إلاَّ برَحْمَةِ الله وليس قوله :﴿فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ﴾ مربوطاً بالمغرقين انتهى.
وليس جعله هذا الأحسن بالحسن لئلا تخرج الفاء عن مَوْضُوعِهَا والكلام عن التئامِهِ.
٢٣١
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٢٤
قوله :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُواْ﴾ جوابها محذوف أي أعرضوا يدل عليه بعده :" إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضينَ " وعلى هذا فلفظ " كانوا " زائدٌ، قال ابن عباس : ما بين أيديكم يعني الآخرة فاعملوا لها، وما خلفكم يعني الدنيا فاحْذَرُوها ولا تغترّوا بها وقيل : ما بين أيدكم وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم وما خلفكم عذاب الآخرة قاله قتادة ومقاتل، " لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ".
قوله :﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ أي دلالة على صدق محمد - ﷺ - إلا كانوا عنها معرضين وهذا الاستئناف في محل (نصب) حال كما تقدم في نظائره، وهذه الآية متعلقة بقوله تعالى :﴿يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [يس : ٣٠] أي إذا جاءتهم الرسل كذبوا وإذا أتوا بالآيات أعْرَضُوا.
قوله :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا﴾ لما عدد الآيات بقوله :( " وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ " ) (و) " آيةٌ لَهُمُ اللِّيْلُ " (و) (آيةٌ لَهُمْ أنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ " وكانت الآيات تفيد اليقين والقطع ولم تفدهم اليَقينَ قال فلا أقلَّ من أن يَحْترزوا وقوع العذاب، فإن من أخبر بوقوع العذاب يتقيه وإن مل يقطع بصدق المخبر احْتِيَاكاً فقال تعالى : إذا ذكرتم الدليل القاطع لا يعترفون به فإذا قيل لهم اتقوا لا يتقون فهم في غاية الجهل ونهاية الغفلة لا مثل العلماء الذين يبنون الأمر على الأحوط ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ بحرف التمنِّي أي أن يخفى عليه البرهان لا يترك الاحتراز والاحْتِيَاطَ.
قوله :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله﴾ أي أعطاكم الله.
وهذا إشاءة إلى أنهم بخلوا بجميع التكاليف لأن المكلف يجب عليه التعظيم لجانب الله والشفقة على خلق الله وهم تركوا التعظيم حيث قيل لهم : اتَّقُوا (فلم يَتَّقُوا) وتركوا الشفقة على خلق الله
٢٣٢


الصفحة التالية
Icon