فإن قيل : ذكر الحَلِف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجوه : الأول : أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أو عند الكافر.
والأول باطل لأن المؤمن مُقرٌّ به من غير حلق.
والثاني : باطل لأن الكافر لا يقر به سواء حصل الحلق أو لم يحصل فهذا الحلق عديم الفائدة على كلّ تقدير.
الثالث : أنه تعالى أقسم في أول هذه السورة على أن الإله واحد وأقسم في أول سورة الذاريات على أن القيامة حق فقال :﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً﴾ [الذاريات : ١] إلى قوله :﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات : ٥، ٦] وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف لايليق بالعقلاء.
فالجواب : من وجوه : الأول : أنه قَر‍َّر التوحيد وصحة البعث والقيامة في سائر السور بالدلائل اليقينية فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها بذكر القسم تأكيداً لم تقدم لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلق واليمين طريقة مألوفة عند العرب.
الثاني : أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشياء على صحة قوله تعالى :" إن إلهكم لواحد " ذكر عقيبه ما هو الدليل اليقيني في كون الإله واحداً وهو قوله تعالى :﴿رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ﴾ وذلك لأنه تعالى بين في قوله :﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الانبياء : ٢٢] أنَّ انتظام أحوال السماوات والأرض يدل على أن الإله واحدٌ فههنا لما قال :" إنَّ إلهكم لواحد " أردفه :" رَبِّ السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق " كأنه قيل : بيَّنَّا أن النظر في انتظام هذه العالم يدل على كون الإله واحداً فتأملوا ليحصل لكم العلم بالتوحيد.
الثالث : أن المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم : بأنها آلهة فكأنه قيل : إن هذا المذهب قد بلغ في السقوط والرَّكَاكَة إلى حيث يكفي في إبطاله مثلُ هذه الحُجَّة.
قوله :﴿رَّبُّ السَّمَاوَاتِ﴾ يجوز، يكون خبراً ثانياً، وأن يكون بدلاً من " لَوَاحِدٌ " وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، وجمع المشارق والمغارب باعتبار جميع
٢٧٤
السنة فإن للشمس ثلثمائةٍ وستين مشرقاً وثلثمائة وستين مغرباً، وأما قوله :" المَشْرِقَيْنِ والمَغْرِبَيْنِ " فباعتبار الصَّيْفِ والشِّتَاءِ، وقيل : المراد بالمشارق مشارق الكواكب، لأن لكل كوكب مشرقاً ومغرباً، (وقيلك كل موضع شرقت عليه الشمس فو مشرق ولك موضع غربت عليه الشمس فهو مغرب كأنه أراد رب جميع ما شرقت عليه الشمسُ وغربت) فإن قيل : لم اكتفى بذكر المشارق ؟.
فالجواب : من وجهين : الأول : أراد المشارق والمغارب كما قلا في موضع آخر ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾ [المعارج : ٤٠] وأنه اكتفى بذكر المشارق كقوله :﴿تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل : ٨١].
والثاني : أن الشروق قوى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً من الغروب فذكر المشرق بيهما على كثرة إحسان الله تعالى على عباده.
ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - بالمشرق فقال :﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ﴾ [البقرة : ٢٥٨].
فصل دَلّ قوله تعالى :﴿رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ على كونه تعالى خالقاً لأعمال العباد، لأن أَعْمَالَ العباد موجودة فيما بين السموات والأرض وهذه الأية دلت على أن كل ما حصل بين السموات والأرض فاللَّه ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله.
فإن قيل : الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السموات والأرض لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلاً في حَيِّزٍ وجهةٍ والأعراض ليست كذلك.
قلنا : إنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضاً حالصة بين السموات والأرض.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٧٠
قوله :﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ قرأ عاصم براية أبي بكر :" بِزينَةٍ " منونة ونصب " الكواكب " وفيه وجهان :
٢٧٥


الصفحة التالية
Icon